لا شك في أن المتغيرات التي تشهدها المنطقة العربية اليوم جعلت المجتمع الدولي ينظر بعين راضية إلى النموذج اليمني الذي يقدّمه فرقاء السياسة وهم يسيرون في درب الحوار الوطني الشامل, ولا شيء غيره يمكن أن يحقّق السلامة للوطن من جوائح الاختلافات وتصادم الإرادات وتباين الأهداف, وهذا ما ينبغي أن تعيه جيداً النُخب السياسية اليمنية لتقف مرةً أخرى وتعيد لفت انتباهها إلى عظمة هذا السلوك الحضاري القويم الذي تسلكه اليوم مترجمةً نبوءة الرسول الكريم في اليمن واليمنيين بقوله: «الإيمان يمان والحكمة يمانية». شيء جميل أن يصبح الحوار عند الإنسان اليمني قناعة مترسّخة؛ يخاف أن يفرّط فيها ويلجأ إلى غيرها, وليس ذلك إلا لأنه جرّب طرقاً كثيرة من طرق الصراع والتناحر فلم يحقق شيئاً, في مقابل دفعه أثماناً باهظة لهذا التناحر من الأرواح والسلم الاجتماعي ومسيرة التنمية والنهوض؛ لكنه اليوم وضع يده على مفتاح الحلول، وأيقن أن محاولات الهيمنة وإلغاء الآخر لم ولن تأتي بشيء, وليس غير التفاهم والانسجام والقبول بالآخر أسلوب مثالي لإقالة الوطن من عثرته وحل كافة مشكلاته. وفي رأيي أن هذا الوعي في العقل السياسي اليمني لم يكن وليد اللحظة التي آمن فيها جميع الفرقاء بضرورة الجلوس على طاولة الحوار الوطني الشامل لحل مختلف القضايا العالقة, وإنما تعود جذوره – على الأقل – إلى اللحظة التي قرّرت فيها النُخب السياسية في حركة المعارضة الالتحام تحت مشروع سياسي موحّد يلغي الحواجز التقليدية وغير المقبولة في منطق اليوم بين يمين ويسار؛ أو تقليدي وتقدّمي, وبذلك قدّمت النُخب السياسية اليمنية نموذجاً مبكراً للعقلية السياسية الراشدة التي تؤمن بالآخر وتصل إلى تفاهمات معه من أجل الوصول إلى دولة حديثة يتعايش فيها الجميع على أساس من العدالة الاجتماعية والحقوق والنظام والقانون، قد تكون العوائق كثيرة أمام تحقيق الأهداف الوطنية, ولكن من المؤكد أن الوطن اليمني يسير اليوم في الاتجاه الصحيح؛ لأن جميع أبنائه ارتضوا الحوار طريقاً مناسباً لصناعة المستقبل المنشود. وما يحدث اليوم في دولة شقيقة مثل مصر يقدّم صورة واضحة للصراع السياسي الذي لجأ فيه بعض الفرقاء إلى صيغ التآمر والاستقواء من أجل طمس الآخر ومحوه من الخارطة السياسية, وما بمثل هذا تُبنى الأوطان، فالزمن اليوم تغيّر ولم يعد زمن السجون والاعتقالات والشمولية؛ وإنما أصبح زمن الانفتاح على النقيض والتقارب معه والاحتكام في الاختلاف معه إلى الصيغ الديمقراطية التي يخرج فيها الخاسر باسماً؛ لأن الحظ لم يحالفه, وليس متآمراً على الديمقراطية برمتها والعودة بالشعب إلى زمن التخلُّف السياسي والديكتاتورية الخرقاء من أجل إرضاء شهوات النفس الإلغائية التي لا ترى في السياسة إلا نفسها، ولا في الشعب إلا قواعدها. احتقار الآخر واستصغاره أسلوب عقيم لممارسة الفعل السياسي, فمن تريد محاورته ينبغي أن تحترمه أولاً وتعترف به فصيلاً سياسياً موجوداً له مساحة شعبية لا يمكن الاستهانة بها, ومن حقه أن يكون مسموعاً وليس مقموعاً, وهذا ما أدركته النُخب اليمنية وهي تتجه جميعها إلى الحوار الوطني الشامل. ولذلك نؤكد على جميع المتحاورين بالقول: لا سبيل ولا طريق آخر غير أن تخرجوا من هذا الحوار بحلول نهائية للمشكلات السياسية القائمة من أجل الانطلاق نحو صياغة عقد اجتماعي جديد يتوافق عليه الجميع وتقوم على أساسه الدولة اليمنية القادمة، أما الدرس المصري فهو درس للجميع؛ ولا ينبغي أن يُقرأ على أنه رسالة ينبغي أن يقرأها طرف يمني بعينه، فهذا الزمن هو زمن الشراكة والتوافق وتحكيم رأي الجماهير، ولا فائدة من اللف والدوران ومحاولات إلغاء الآخر والاستقواء عليه بما هو غير سياسي، فأية قوى لا تستطيع أن تشذ عن التوافق وتسيطر على المشهد مهما كان حجم خزانتها من السلاح أو مستوى التأييد الخارجي. لا فائدة من إذكاء المذهبية والطائفية بين أبناء الوطن الواحد، ولا فائدة من الاستفزازات والمؤامرات وعمليات التخريب وإعاقة مسار التسوية والحلول السلمية للمشكلات، والعملية السياسية الناجحة في عالم اليوم هي التي تقوم على أساس لمّ الشمل وجمع الكلمة وبناء جسور من التفاهم بين مختلف الفرقاء للسير بالوطن إلى حيث يريد.. فلنفهم ذلك تمام الفهم. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك