هل يعلم التائه أنه تائهٌ، يحتاج إلى خيط(إريانا).. أم يحسب نفسه خيط إريانا الذي يحتاج إليه التائهون ؟!.. كانت ساعةً شمطاء مريعة.. تلك التي تهتُ فيها – أنا الطفل القروي الغريب – عن أبي، ذات رحلة طفوليٍة خائبة، في مدينة ضائعة، وانتهت تلك اللحظات المذعورة السرمدية بيد أبي(تمتد نحوي كيدٍ من خلال الموج مُدّت لغريق). لقد وجدتُ نفسي يومها، لكن المدينة التي ضعتُ فيها ذات يوم لم تجد نفسها بعد .. وكبرتُ .. ولم أصبح مرشداً للتائهين، كما كُنت أتعشم، بقدر ما عشتُ تائهاً في متاهات أكثر خفاء وإبهاماً وفداحة.. وليست كل المتاهات في زاوية (اختبر ذكاءك ) ليحلها مُثقفٌ صغير يرسم لنا خط الوصول، أو بشكل رمزي يمد لنا خيط (إريانا)، و(إريانا) هذه امرأة يونانية ذكية، أحبت رجلاً محظوظاً، وعملت على إخراجه من أشهر متاهة في التاريخ الأسطوري (متاهة ديدالوس). كانت متاهة ديدالوس عبارة عن عدد هائل من الأنفاق والدهاليز المتشعبة الملتوية، والمداخل التي لا مخارجَ لها، كانت في الحقيقة مقبرة مرعبة؛ فلم يستطع أحد من الداخلين إليها أن يعود إلى نقطة البدء، أو يجد مخرجا، وبالتالي يلتهمه الوحش المرعب (مينوتور)المتربص بالتائهين هناك، وحده(ثيزيوس) خرج من المتاهة بفضل خيط طويل اقترحته عليه (إريانا )، التي أمسكت بطرفه فنشره وراءه خلال الطرق الملتوية التي سلكها داخل المتاهة، ولما قتل الوحش (المنوتور)، عاد مترسماً ب(خيط إريانا)هذا الخيط الذي أصبح رمزا للنور الهادي المرشد ،وسط الظلمات والصعاب، إنهُ الخيط الذي يؤدي إلى الحقيقة ، وتعتقد –أحيانا – كرجل المباحث أنك أمسكت بطرفه في قضية مبهمة.. (وتعرف بعد رحيل العمر.. بأنك كنت تطارد خيط دخان .. خيط دخان).يُذكّر خيط الدخان بآمال خائبة وأدلة زائفة وظنون آثمة .. أين خيط الدخان هذا من خيط إريانا..!؟ تلافيف المخ البشري أشبه بمتاهة معقدة ، والإنسان قابل للضياع في الحياة الزاخرة بالمتاهات .. والمتاهات لا توجد بالضرورة خارج الإنسان، في العالم، بل كثيرا ما تكون داخل جمجمته المتورمة تلك، فيضيع المرء في فكرة أغرق في الإيمان بها، أو لذة انغمسَ فيها حتى الثُمالة.. وأياً كان معنى التيه، فليس هو بالضرورة ضياع الحقيقة، فغالبا ما تكون الحقيقة على مرأى ومسمع لكن التيه بشكل واقعي هو ضياعنا عن الحقيقة، يحدث كثيراً أن نفتش عن أشياء في حوزتنا، لكننا منصرفون عنها، وعلى ذلك يجب أن لا نندهش أن وجدنا رجلاً يحملُ مِصباحاً في رابعة النهار، يفتش عن شيء ما، فقد يكون هذا الشيء المفقود هو الحقيقة التي بحث عنها الفيلسوف (ديوجين)بنفس الطريقة.. وبذلك أصبح (مصباح ديوجين) رمزا للبحث عن الحقيقة القريبة الغائبة. يحكي«العهد القديم»عن متاهة كبرى بحجم سيناء، تاه فيها الشعب الإسرائيلي طوال أربعين عاماً، بسبب خطيئة ما، وقد نعتقد أن هذه المتاهة ربحت ورقة التاريخ والجغرافيا والكثافة السكانية ، بيد أن الوقفة الرمزية الكاشفة تطلعنا على أن العالم بأسره عاش في متاهة بحجم الأرض طوال القرون الوسطى، ربما شع قبسٌ هنا وقبسٌ هناك.. لكن ذلك لا يغير في جوهر القضية، بل ما زالت هناك متاهات عريقة بحجم أوطان وأقاليم سادرة، وشعوب وأمم تعيش هانئة في ضياعها الطويل، وتظن أنها تنير العالم، وتهدي البشرية طريق الرشاد. ذات يوم مقلوب، قاد بشار بن برد«الأعمى» رجلاً مبصراً تائهاً عن عنوان كان بشار قد وصفه له ولم يستطع الرجل الوصول إليه، فأمسكه بيده، وأوصله إلى العنوان، وقال: أعمى يقود بصيرا لا أبا لكمُ ... قد ضل من كانت العميان تهديه لم تعتدل قامة الزمان بعد، وظل فاقد الشيء يعطيه، والجهل يعلم الناس أمور دينهم ودنياهم، والذي يجعل المتاهة مركبة أننا لا نمتلك الرؤية أو حتى الشجاعة التي امتلكها شاعر جاهلي كاشَف بتبعيته لغُزيّة غواية ورشداً، وعبر عن فضيلة الإحساس بالضياع ، وهناك فرق بين تائهٍ يدري وتائهٍ يحسب نفسه مرشداً للتائهين, إن الإحساس بالضياع والتيه فضيلة لا يمتلكها أولئك الذين يؤمنون بالحقيقة المطلقة، ويجنح بهم الخيال إلى الكد في متاهات لا وجود لها، على حساب متاهاتهم الحقيقية، كان«دونكيشوت»يصارع طواحين الهواء؛ بينما ينهار في الواقع، هناك كهوف تحاول تنوير فرنسا، وأغلال تحاول إرشاد السويد إلى الحرية، وحركات إسلامية –حسب قول الغزالي – منهمكة في حل أزمة التخمة في أفريقيا .!! نحن غارقون-بعيداً عن أزمتنا –في متاهات مختلقة، قضايا الإسلام السياسي والاجتماعي والفكري.. حلقات مفرغة من الإنهاك العبثي للتاريخ القومية ، والوطنية.. متاهات مدمرة للحياة الإنسانية، الإيديولوجيات متاهات يوتيوبية مقنّعة بالرشاد والحكمة.. وحين يقال إن كل الطرق تؤدي إلى روما.. تكون روما هي أم المتاهات جميعاً.! بالإمكان أن نشك بأي شيء لنكون على بينة منه، الذين بدأوا بالشك انتهوا باليقين، على عكس الذين بدأوا باليقين فانتهوا بشك فادح، وبطريقة الأمثال العربية أولئك «أهدى من القطا» وهؤلاء «أضل من الضب»، يقولون أن الضب إذا خرج من جحره تاه عن طريق العودة إليه ، ويستحق بذلك أن يكون شعارا للمرحلة. قد يتجلى الشعور بالتيه والضياع على شكل سلسلة من الأمراض النفسية، كما قد يتجلى من خلال الشك ، ولأن هناك أناسا شكوا من قاعدة «ليس بالإمكان أبدع مما كان»، فقد خرجت البشرية بفضلهم من كثير من المتاهات، وكل ما تحقق من منجزات جاء على أيديهم، من قبل ومن بعد«ديكارت»صاحب فلسفة الشك المنهجي ، وقائل الحكمة«أنا اشك إذا أنا موجود». للحكمة أكثر من وجه « والحكمة ضالة المؤمن» التي سبقه إليها الكافرون بالخرافة والدجَل والعجز وضل وحده في متاهة الإيمان بقدرات الموتى وترهات الأحياء التي جعلت الإيمان متاهة عنقودية من المتاهات المركبة من متاهات معقدة .. والمخرج سراب بقيعة ، ولا طريق إلى الله أو إلى الناس في غياب الحقيقة تحت كل هذا الركام الهائل من المتاهات العريقة والمحدثة .. التي يبدو أنها لا تريد أن تجعل «يهوذا الأسخريوطي»ينعم بانفراده بأبدية متاهاته.. لقد حُكم على يهوذا بتيه أبدي بسبب نزوة غابرة أطاحت بجسد المسيح, لا شيء مؤكد, هناك رواية عن تشرده وتيهه في أصقاع الأرض, وإشاعات في أزمان متباعدة عن أماكن متباعدة مر بها وأفزع بمرآه بعض الأطفال.. إنها قصة تبعث على الأسى والشفقة لا التشفّي .. أعتقد أن المسيح نفسه يبكي تعاطفاً مع هذه الحثالة من البشرية التي باعته وهو الذي أخرجها من المتاهة, لقد اقتدى يهوذا ب«ثيزيوس»الذي غدر هو الآخر ب(إريانا ) وتركها وحدها في جزيرة نائية بعد أن أخرجته من المتاهة.! هكذا نحن نسيء إلى الذين كحّلوا أعيننا بالضوء، وأرشدونا إلى الحقيقة, ولهم الخلود والنعيم، لقد عاد المسيح إلى السماء، وتزوجت إريانا إلهاً.. باخوس إله الخمر.. بعد ذلك البشري الغادر الذي لا أدري لماذا يُعد بطلاً؛ بينما يُعد يهوذا بصقة شريرة آثمة ؟!. رابط المقال على الفيس بوك