ننتقل إلى التجريب في الأدب الروائي وسأضرب مثلين: المثل الأول في رواية «قصة موت معلن» للكولومبي الكبير جابريل جارسيا ماركيز، والذي استوقفه حدث غرائبي من جهة، وواقعي إلى حد الموت الزؤام من جهة أخرى، والموضوع يتعلّق بمقتل العاشق الغامض «سنتياغو نصار» الذي تم خلال سويعات من نهار، وكان قتلته المتردّدون، المعلنون لنيتهم قتله على أمل أن يردعهم رادع أو يراجعهم مراجع، قتلته هؤلاء نفّذوا الجريمة بيد باردة وبسكاكين المطابخ كما يقول ماركيز، والسبب أنهم سمعوا عن علاقة بين أختهم وسنتياغو نصار!!. وكانت الجريمة النهارية مع سبق الإصرار والترصد موصولة برغبة دفينة لدى القتلة في ألا يجدوا الضحية، أو أن يمتنعوا عن قتله بكيفية ما؛ لكنه وبكل بساطة فتح لهم الباب حتى يتلقّى طعنات السكاكين الصدئة..!!. في هذا العمل الروائي كان من الطبيعي أن يحتار أي سارد عارف أمام طبيعة الموضوع وبساطته الواقعية، بمقابل الثمن الفادح الذي دفعه العاشق سنتياغو نصار، وكان من الطبيعي أن يحتار السارد أيضاً أمام رواية تمتد أحداثها إلى 24 ساعة فقط، منذ انطلاق الشائعة التي أشارت إلى علاقة ما بين أخت الجُناة والضحية وحتى مقتله التراجيدي في صباح اليوم التالي، وكان من الطبيعي أن يقلق الروائي على السرد والخيط الرابط بين الأحداث خاصة أن عناصر الحبكة تتوارى في أقبية الشرطة والتحرّي والقضاء. اعترف ماركيز بهذه المتاعب، وقرّر أن يخوض المغامرة استناداً إلى «تفاهة السبب» الذي أدّى إلى مقتل سنتياغو نصار، وتحدياً لأدواته الروائية التي عليها أن تتعامل مع قصة ملحمية بهذا القدر من الغموض الغرائبي، واستخدم كل إمكانياته الصحفية والسينمائية كسيناريست ومحقّق صحفي، واشتغل على القالب الروائي كي يبقى القارئ في تمام الدهشة والتساؤل والاستغراب، فكان له أن يقدّم لنا فتحاً كبيراً في السرد الروائي المتجدّد، تماماً كما فعل أيضاً في رائعته الأخرى «خريف البطريرك» مستخدماً سرداً هوميروسياً ملحمياً، ولغة توراتية نبوئية، وضمائر تختلّ بالإحالات العفوية للنصوص والأحاديث، وأوصاف تماهي بين المعقول واللا معقول. هل كان لماركيز أن ينجح في تجريبه لولا ذائقته الرفيعة وثقافته الموسوعية وامتلاكه أدوات السرد كفاتح عظيم في هذا الباب..؟!. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك