عطفاً على حديث أمس الأول حول رواية “مائة عام من العزلة”، لجابرييل جارسيا ماركيز أتذكر سلسلة يومياته الصحفية بعنوان “حكاية بحار غريق”، التي اعتمد فيها على أسلوب الرصد الصحفي الدقيق، وأعاد إنتاج بوحها العجيب بلغة رشيقة لفتت أنظار القراء، وكانت سبباً في مطاردة السلطات الكولومبية له، لأنه كشف المستور، وأوضح ضمناً أن جنوح الباخرة العسكرية التي غرقت مع راكبيها وبضائعها، سببهُ استخدامها في تهريب البضائع، وتحميلها فوق طاقتها المقررة، وبإشراف ناجز من المؤسسة العسكرية للدولة !!. ذلك ما يمكن أن تفعله الطغم الفاسدة أينما وجدت، وخاصة عندما تتحول إلىاوليغاركيا عسكرية بشعة كما هو حالنا اليوم. مايعنينا في رواية “مائة عام من العزلة” اختصار القرائن الفنية السردية وتنوعها في التالي: الخبر الصحفي الاعتيادي الذي استهل به الرواية، مفارقاً تماماً لمألوف الاستهلالات الروائية السابقة عليه. تحولات الأمكنة والأزمنة بالترافق مع التحولات في المجتمع، من خلال رصد لأجيال من أسرة واحدة. حضور فن السيناريو السينمائي المشهدي، من خلال وصف موت بطل الرواية “جوزيه اوركاديو بوينيدا”.. قال ماركيز وهو يصف موت البطل مستحضراً ذلك الذي مات مقتولاً في مطلع الرواية “بريدنسو أجويلار” .. قال ماركيز:(( صعقت اورسولا لرؤية الميت بريدنسو أجويلار الذي حضر من غياب موته ليقول لها: جئتُ أحضر دفن الملك !!.. دخلوا على جوزيه اوركاديو، وصاحوا في أُذنيه.. ووضعوا مرآة أمام منخريه، فما استطاعوا أن يوقظوه. في الفجر همت السماء بوابل من أزهار صفراء حتى غطَّت السائمة النائمة في العراء، فكان عليهم أن يبادروا إلى استخدام الرفوف والمناجل ليفتحوا طريقاً لجنازة جوزيه اوركاديو بوينديا)). شعرية النص من خلال الاستطرادات السردية المفعمة بلغة غنائية. فجوات المعنى والمبنى من خلال الاستعادات المتقطعة عمداً، كما لو أنها مونتاج سينمائي. معقول اللامعقول في الحياة الواقعية في انزياحات ابتكارية من الواقعية الفنية إلى الواقعية السحرية التي أصبحت صفة أساسية لفن السرد في أمريكا اللاتينية. تداخل الضمائر مع قدر ملحوظ من التجويزات اللغوية التي تؤدي إلى نمط من الكتابة الملحمية، كما في رواية “خريف البطريرك” التي تنساب فيها العناصر المكانية والزمانية، ويتداخل فيها ضمير المتكلم مع المخاطب، في توليفة دائرية فريدة المثال. المونولوج الداخلي للأنا الساردة.. المقرون بنوستالجيا المجد الغائب، وأنين الزمن السياسي المخاتل، كما في رواية “الجنرال في متاهته” التي ترصد مآلات الحالم الكبير الذي تاق لتوحيد لاتين أميركا “سيمون بوليفار” في نبوءة استباقية كاشفة، ترينا مصائر الحكام في العالم الثالث. غرائبية الحقائق الوجودية التي تصل إلى حد مقتل العاشق البريء “سنتياغو نصار” طعناً بسكاكين المطبخ الصدئة، وفي زمن سردي لا يتجاوز يوماً واحداً، وواقعة وحيدة لا تتخطَّى ذلك القتل التراجيدي الذي يتم في سطرين أو ثلاثة من الرواية. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك