النموذج الذي سنعتمده للمقارنة بين «جابرييل جرسيا ماركيز» ونجيب محفوظ هي روايته الهامة «مائة عام من العزلة» والتي نال بها جائزة نوبل للآداب، وهي رواية تتحدث عن أجيال مُتعايشة، تماماً كثلاثية نجيب محفوظ التي تتحدث بدورها عن أجيال مُتعايشة. ويهتم ماركيز بؤرة الضوء الأساسية على مُكتشف «ماكوندو» الأول «جوزيه اوركاديو بوينيدا» تلك القرية التي أنشأها جوزيه مع مرافقيه المغامرين المُكتشفين، فبنوا فيها عشرين بيتاً من أخشاب وألياف الأشجار، وتعمدوا أن تكون على حافة جدول ينساب به ماء شفّاف رقراق. ويصف ماركيز الحالة البدائية بلغة سحرية قائلاً: «كانت الأشياء بلا أسماء، وكان يُشار لها بالبنان للتعرُّف عليها». ثم تتواصل الواقعية السحرية مع المغامر البدائي، والحالم الكبير، رجل «الخيمياء» الذي يضني نفسه بحثاً عن تحويل التراب إلى تبر «ذهب» ويندهش أمام عجيبة الكون الأُولى «آلة الكاميرا» ويبحث عن تجسيد الماورائيات في صندوق تلك العجيبة «الكاميرا» ويظل سادراً في جنون أبحاثه الميتافيزيقية داخل مختبره البدائي حتى يصل إلى حافة الجنون. يتعايش جوزيه مع زوجته «اورسولا» وأبنائه الذين يتناسلون تباعاً، وتعصف بهم عواصف المدينة الأُولى التي يقرر قائدها العسكري القادم مع حفنة من الحراس الحفاة أن يجعل لبيوتها ألواناً متعددة !!، ومن أعطاف جوزيه ورحم زوجته أورسولا يتكاثر الأبناء والأحفاد. ويرمز العقيد اورليانو بوينديا «ابن المغامر المجنون جوزيه اوركاديو بوينديا» إلى زمن التحولات العاصفة والثورات الهائجة، والعدمية السلوكية، فنقرأ في تلك الرواية تاريخاً بكامله يمتد مائة عام بحسب التحديد الإجرائي لعنوان الرواية «مائة عام من العزلة». في هذا العمل نقف عند تخوم أدب روائي عالمي جديد، فيجترح ماركيز مأثرة الكتابة المتواشجة مع الميثولوجيا والنص الغنائي والوصف اللماح الموصول بتقطيع السيناريو السينمائي، والقصة الخبرية العابرة، والحوارات الذهنية العميقة التي تصدر بكلمات مُقتضبة من أفواه أبطاله، والوصف المشهدي المموسق بغنائية فريدة المثال. إننا هنا إزاء نص النصوص الجامعة من حيث علاقاته بآداب الماضي المستغورة في التاريخ، مع مغامرة باستدعاء الحاضر الكتابي والتقني ضمن وشيجة للتكامل لا التنافر. وفيما يتعلق بالجانب التاريخي يجدر بالذكر أن ماركيز لا يسلم قياد الإبداع للمعلومة التاريخية المؤكدة، بل يخضع تلك المعلومة لضرورات فن الكتابة، وبهذا يصل بعمله إلى نقطة الإبداع المتكامل دون أن يكون مفارقاً للحقيقة الواقعية الصارخة كتنين مفجع. هذا النسق من الكتابة أسماه النقاد ب«الواقعية السحرية» ولاحظوا انه نسق يتخلّى عن الأيديولوجيا المجردة، كما يتسامى عن الشكلانية التي تجعل « الفن الفن» فحسب. وعوضاً عن ذلك يكون الموقف الأدبي بمثابة أمانة في عنق القارئ الذي يكتشف الحقيقة دون مواعظ، ويصل إلى قمة الاستمتاع الجمالي مع عينين مفتوحتين على الحقيقة ومآسي الحياة. هذا نوع من السرد التاريخي يقدم نموذجاً مغايراً، فيستطرد عليه عدد عديد من كتاب أمريكا اللاتينية ويضعون بصمة لأدب روائي إنساني جديد.