في روايته الملحمية التي نالت جائزة نوبل للآداب بعنوان “ مائة عام من العزلة “ تجوّل الكولومبي “ جابرييل جارسيا ماركيز” في تضاريس قرية الليل والمرايا الافتراضية “ ماكوندو “ . تلك التي نشأت عصر يوم بعيد وتمددت وراء آكام من حجارة كبيرة بيضاء وملساء وكأنها بيض من قبل التاريخ، يوم أن كانت الأشياء بلا أسماء، وكان يُشار لها بالبنان للتعرّف عليها، لأن سكان ماكوندو أُصيبوا بداء النسيان كما يحدث في كل قرية ومدينة في العالم !، وقد شهدت القرية أول منزل ناصع البياض كروح المغامر الكبير “ جوزيه اوركاديو بوينديا “. في تلك الرواية نتابع زمناً روائياً يتّصل بالأبطال الكبار أمثال جوزيه بوينديا، وابنه العقيد اورليانو بوينديا الذي شهد ما يربو عن ثلاثين معركة، وتمرّغ في أوحال السلطة العسكرية، وذهب بعيداً في مشقته الحياتية ناظراً لأمر عدو يُرى ولا يُرى!. غير أن كل الأبطال الذين تساموا حيناً وتلاشوا أحايين أُخرى لم يكونوا يخرجون من مظلة الأُم الكبيرة “ اورسولا “ .. تلك المرأة الهندية الحمراء التي تزوجت وهي تلبس حزام العفة البدائي، وما خلعته إلا بعد أن قتل زوجها الهندي المسكين “ بريدينسيو اغويلار” ليؤكد فحولته وليرد على الإهانة التي وجهها إليه واصفاً إياه بالعنّين غير القادر على مباشرة زوجته ! . أورسولا هي روح العمل الملحمي الماركيزي ونبضه، فهي التي أرغمت زوجها جوزيه على البقاء في ماكوندو بعد أن استبد به حنين الرحيل الأزلي واكتشاف المجهول، وهي التي ظلّت تُلاحق ابنها الزعيم اورليانو بعد أن تاه في غياهب الحروب والجنون الكبير، وهي التي راقبت أجيالاً من “ آل بوينديا “ حتى شاخت وضمرت واحدودبت وأصبحت خفيفة كريشة، حتى أن أحفاد أحفادها كانوا يلعبون بها كدمية ويُودعونها الدولاب إذا سئموا منها! . لم تفقد ارسولا لحظةً سلطتها القاهرة، وقوتها المعنوية، حتى وهي في أرذل العمر، ولم يجر في بيت الراحل الكبير جوزيه أي شيء دون علمها وتدبيرها، ولم يتسنّ لأحد من سلالة بوينديا المجنونة أن يتمرد على نواميس الأُم الكبرى العاتية . اورسولا نموذج لجبروت امرأة استندت إلى فطرتها ومركزية حضورها الطاغي في بيتها، وقدرتها على ملاحقة العاديات حد أصغر الصغائر. لقد هزمت زوجها المغامر جوزيه بالدأب والصبر والمثابرة، وحاصرت أبناءها وأبناء أبنائها بالمتابعة والرقابة التي لا تفتر، وكانت بحق نموذجاً للأم الكبرى الصانعة للأجيال .