كانت “أورسولا” الأُم الكُبرى التي ابتدعها الروائي “جابرييل جارسيا ماركيز” فيما ظلّت شاخصة بلحمها وعظمها في أحوال أُنثى الزمان، تلك التي كانت وبغريزة الأُنثى والزوجة مُقيمة في مربعها السحري وكانت تنظر للعاديات من وراء عدسات بيتها وزوجها وأطفالها وأحفادها، ولم تكن مُستعدة للتخلّي عن منجز عائلي، صغيراً كان أم كبيراً، ولم تتراجع قيد أنملة عن مركزية الأُم القائدة لحكومتها المحلية المُحددة بالمنزل وعتباته. وكانت في ظل التغيرات الجارفة والتحولات المفاجئة والتقلبات الاستحالية ثابتة على ديمومة قرءاتها الأولى المُفعمة بمركزية وعناد الأنا القائدة لمقتضيات المنزل وشروط العائلة العتيدة. تداعت مع زوجها المخطوف بالبحث عن المستحيل والتقلب في جمرات الحيرة وصولاً إلى الجنون، وطاردت ابنها الذي تحول إلى زعيم ثوري مُحاط بحفنة من التابعين الطُهرانيين، ومجموعة أُخرى من القتلة واللصوص الاعتياديين!!. وكانت ترقب بعين الدقة والرصد أبناء أبنائها حتى وهي في أواخر عمرها التسعيني عندما استحالت إلى قشرة آدمية ضئيلة يلعب بها الأحفاد كما لو أنها دُمية. لم تكن “أورسولا” أُمّاً لأبناء وأحفاد “جوزيه أوركاديو بوينديا” فحسب، بل كانت أنموذجاً للأم الكبرى التي تُحاصر حصارات الزمن، وتضع لمساتها المُدهشة في كل موقع وزاوية، وتعيش اللحظة بقوة الدفع الأولى الذي ارتضته كزوجة للباحث والمخترع المجنون جوزيه. وقد أبحر الروائي الكولومبي الاستثناء في الكشف عن وجه الأبدية في نموذجه الأنثوي القادم من رحم أُمنا الأولى حواء، وكأنه يقدم تميمة الحياة الأُولى وسرها وسحرها، وينشر ظلال الأُنثى الطاغية في تفاصيل تفاصيل حيواتنا العابرة وأيامنا المسافرة. “أورسولا” نموذج أقصى لأنثى الذاكرة المستغرقة في لُجة الحياة وتنكُّب مشاقها، إنها الجدة التي نتعلم منها الأُسطورة والحقيقة، ونقرأ معها معقول اللا معقول ونحن نتصفّح أسفار الماضي والمستقبل، ونتداعى مع أنفاسها أثناء ترحلنا الطفولي المُدهش في معارج الخيال وبهاء الألوان.