ما من سارد يكتب رواية أو قصة إلا وكانت شخصياته مزيجاً بين الواقع والخيال، والحقيقة أن الواقع يُسعف الروائي في التقاط الملامح الأساسية لشخصياته الروائية التي تذكّرنا بنماذج مُشابهة نتعامل معها يومياً، تلك النماذج قريبة جداً منا، وحاضرة أساساً في تفاصيل أيامنا. فالأُنثى ليست مختصرة في جملة الصفات المقرونة فولكلورياً بالأُم والأُخت والزوجة، بل هي أيضاً ما يتجاوز الصفات إلى مستويات الوشيجة الإنسانية الدقيقة.. الحادة والناعمة.. القوية والضعيفة.. الهادئة والصاخبة.. الحمقاء والعاقلة. تلك الصفات بجملتها لا تقترن بالأُم والأُخت والزوجة فحسب، بل بذلك الملكوت الأُنثوي الاستثناء الذي نقبله ولا نقبله.. نتأسّى به ونرفضه.. نتماهى معه ونجافيه أيضاً!!، وتلك واحدة من خصائص العلاقات الإنساينة بين الجنسين الصعبين. من هذه الزاوية سأحاول قراءة مفهوم الأم الكبرى «أورسولا» بحسب رواية جابرييل جارسيا ماركيز “مائة عام من العزلة” والتي تمثل أنموذجاً آخر لأمهاتنا وجداتنا اللائي يُعدن إنتاج أنفسهن عبر أجيال متعاقبة ترث الخصال والفعال، وتتحدد في الملامح والسلوك. «أورسولا» التي نعنيها هنا هي الأُم الكبرى لجيلين من البنين والبنات والأحفاد الذين جاءوا من أعطاف الاكتشاف المدهش لمدينة الليل والمرايا الخرافية.. «ماكوندو» التي أقامها المهاجرون الأُول فوق حجارة كبيرة ملساء وبيضاء كبيض من قبل التاريخ .. يوم أن كانت الأشياء بلا أسماء وكان يُشار لها بالبنان للتعرُّف عليها.. وكانت عائلة غجرية تصل إلى الموقع وسط صخب من طبول وعروض سحرية، كما يقول الروائي. عاشت «أورسولا» مع ثلاثة أجيال متعاقبة، ودشّنت حياتها مع بدائية الأيام الخوالي عندما كان مجموعة السكان الأصليين لأمريكا اللاتينية حالة موازية للطبيعة البكر، وكانوا ينتظرون وصول الغجر من وراء البحار ليشاهدوا عجائب العالم الجديد الذي بدأ لتوّه بالتحول من الفطرة إلى الصناعة، ومن الطمأنينة إلى القلق، ومن الحياة المديدة إلى الموت القسري. لكن «أورسولا» وبرغم صروف الدهر ظلّت قابعة في مربع عنادها الأزلي الذي حافظ على العائلة وتوازنها مما سنقف عليه تباعاً.