هذا عنوان الرواية التي نال عليها جابرييل جارسيا ماركيز جائزة نوبل المستحقة، وأنا لا أستعيد هنا رواية ماركيز لمجرد أنها نالت جائزة نوبل للآداب قبل ثلاثة عقود من الزمن، بل لأنها تشي بمعانٍ كثيرة على المستويين الإبداعي والدلالي، ذلك أن هذه الرواية قلبت كامل المعايير والمفاهيم التي سادت في الرواية الإنسانية، فيما تلاقحت مع عناصر روائية سابقة عليها دون أن تسايرها إلى النهاية، فمن تضاعيف نص ماركيز الأول يمكننا ملاحظة ظلال “غوغول” الروسي، وآرنست همنجواي الأمريكي، وآخرين من سدنة الآداب السردية العالمية، كما فاضت بتكاملية ذوقية مع القيم الفنية المتنوعة النابعة من مستجدات العصر وتحولاته الفنية المتواصلة. ومنذ السطر الأول من روايته “مائة عام من العزلة” نتوقف أمام بداية صاعقة وغير مألوفة!!.. خبر صحفي يصوغه ماركيز على النحو التالي: ((وقف العقيد “اورليانو بوينيدا” أمام فصيل الإعدام، مُتذكراً عصر ذلك اليوم البعيد.. عندما كانت “ماكوندو” قرية من عشرين بيتاً من الغضار والقصب .. تقع تحت حافة جدول من ماء صافٍ يسير فوق حجارة ملساء وبيضاء كبيض من قبل التاريخ .. وكانت الأشياء بلا أسماء، وكان يشار لها بالبنان للتعرف عليها)). منذ تلك المقدمة اللافتة؛ اجترح ماركيز مأثرة “الواقعية السحرية”، ليضعنا أمام غرائبية الدهر، من خلال معقول اللامعقول، وليمزج بإدراك ومُكْنةٍ مسبقتين عناصر متنوعة للكتابة، فبساطة الخبر تميد بك فوراً للولوج إلى عالم تتناوب فيه الأمكنة والأزمنة.. حضوراً أكروباتياً غرائبياً، والجُملة المقتضبة تشي بأبعاد واسعة للخيال والتخييل، والشعرية النصَّية تنبجس من وراء الكلمات لتقودك إلى دهاليز العمل الكبير الذي شكل فتحاً مبيناً في الرواية المعاصرة. لكن “مائة عام من العزلة” لم تأتِ من فراغ، بل سبقتها بروفات القصص القصيرة التي كتبها ماركيز قبل ذلك، وكانت بمثابة منصة الانطلاق التي انبنى عليها هذا الصرح السردي الباذخ. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك