ليس مهماً كون الروائي جاربييل جارسيا ماركيز نال على رائعته " مائة عام من العزلة " جائزة نوبل، بل المهم ان نتوقف قليلاً أمام فرادتها .. فهذه الملحمة الروائية بدت فريدة المثال لكونها استخدمت عناصر متعددة ومازجت بينها لصالح السرد وانسيابه الناعم ولم تتخلَّ برغم سياقها الدلالي الكبير عن أدوات الشكل وفنون التعبير الذي يتميز بها السرد. في (مائة عام من العزلة) استخدم ماركيز العناصر التالية: الآداب الدينية والميثولوجية التي استقرأت الوجود من خلال " المرقوم" المحفوظ في ذاكرة الغيب.. وبهذا المعنى تمسك بمدارات الوجود العياني بوصفها مدارات تعيد إنتاج المنتج، وتشير لحتمية الفناء بعد البناء، وتضع الحقائق أمام براكين الدهر وعواصفه وانقلاباته. تبدأ الرواية بمكان أشبه باللا مكان حيث لا زرع ولا بشر.. هذا المكان الذي يشهد كل ما شهده العالم حتى الآن من بناء، وصراع، وأجيال، وثروات ترجعه في الختام إلى نقطة انطلاقه الأولى.. تلك المسطورة في رقوم (ملكيادس لبي ) التي ورد فيها ما كان وما سيكون. ملكياس هو (ملكي صادق) بحسب الآداب التوراتية، ولعله أيضاً (الملك القدوس) بحسب بعض تيارات الحنفية الإبراهيمية.. والفكرة حاضرة في كامل الأدبيات الدينية والميثولوجية التي تقرأ الزمن بوصفه نقطة عابرة في الدهر.. وسنرى أن الدهر يشمل العابر والمتحول.. الموجود والفاني.. الثابت والمتغير.. الحياة والموت.. هكذا تصل الحيوات إلى مصائرها المحتومة كيما تنتفي وتؤذن بحياة جديدة. في تضاعيف الرواية جرأة غير مألوفة في توظيف أنساق تنتمي للأخبار الصحفية (حول سيرة العقيدة أورليانو بوينديا)، وأخرى استرجاعية (مطلع الرواية) وثالثة مونتاجية سينمائية (في أكثر من مكان).. كما يعمد ماركيز إلى ممازجة هذه الأنواع بكفاءة وكأنه يفتح للرواية باباً واسعاً لاستخدام كل ما يخدم السرد ويمنحه زمناً وافراً. ينقلب ماركيز على الرواية الكلاسيكية في منطقة حاسمة منها وهي منطقة الوصف حيث يُباشر هذه الرافعة الهامة بأسلوب يعتمد ما يمكن أن اسميه (غنائية الفراغات المونتاجية)، وسنرى في تضاعيف النص واستطراداته ما يؤكد ذلك.