من قال إن فرج فودة مات؟ أكره إجازات الأعياد غالباًً.. غير أن إجازة العيد الأخير كانت في غاية الروعة، حيث تمكنت خلالها من إتمام قراءة عدد من أعماله الرفيعة والملهمة. فرج فودة : صاحب الرؤى المتألقة والحيوية الخصبة، وصاحب الفكر الحي والمتجدد الثاقب الذي لا يموت. تحية لروحه في ذكرى مولده 20 أغسطس، كمناضل فكري نوعي، دفع حياته ثمناً لإحياء العقل والرشد والاجتهاد والتسامح والجدل والقانون والمواطنة، على اعتبار كل ما سبق من قيم ومفاهيم، هي بالطبع، من أهم المداميك الحضارية الرئيسية لنهضة -وعدم تخلف- الفرد والمجتمع والدولة بالمحصلة، تماماً كما يقول التاريخ المعتبر لأي أمة صحية غير مشوهة أو استمرت تقاوم التشوهات الحاصلة والكامنة فيها حتى تبرأ منها جيداً، ثم تمكنت بعدها من الوصول لمرحلة الإبداع المشرّف على كافة الأصعدة، بحسب ما يفترض. ولقد قالوا إنه كان ضد الإسلام.. والحقيقة أنه كان مع الدولة المدنية، ضد الدولة الدينية الانتفاعية باسم الدين، كما كان مع التنوير والحوار واحترام الحقوق والحريات وقيم القانون والعلم والتحديث والتطور. ثم حاولوا تشويهه بشتى الطرق والوسائل والتلفيقات المشينة.. بينما استمر ضد الاستغلال السياسي للدين - أي ضد المزايدة الدينية الجوفاء والانحطاطية حضارياً - لأن في ذلك فقط يكمن الصلاح للدين وللسياسة معاً، لا تخريبهما كما حصل ويحصل؛ وعموماً: لأنه فرج فودة الرائي والمفكر المستقبلي الجسور الذي دأب ليكون مع الخطاب الديني الناضج والمسئول على المستوى الحضاري الذي يليق بهذه الأمة، لا مع الخداعات أو التدليسات الأصولية التي قادت العرب والمسلمين إلى غيبوبة حضارية سيئة وبغيضة ومخجلة على أكثر من صعيد كما يقول التاريخ للأسف. فوق ما سبق هددوه وكفروه، إلا أنه ظل يقاوم سذاجة وحمق المنادين بالخلافة على وجه التحديد، بينما لا يستوعبون – كما نعرف - التحولات العصرية ومعطيات الوعي السليم أبداً، ومن ناحية أخرى ظل يرى أن الإسلام ليس ديناً كهنوتياً، إضافة إلى أن الإمامة الخلافية في عهود الخلفاء والأمويين والعباسيين كانت في الأساس فكرة قرشية تنتقص من مفهوم المواطنة المتساوية، كما أنه لا يوجد ما يسمى بالحق الإلهي كطريقة للحكم في الإسلام على الإطلاق. وهكذا؛ حرضوا ضد الرجل كثيراً، وهو الذي كان ينتقد ببسالة معرفية شديدة - كما بمبدأية الموقف العقلاني- عقم من ينادون بالعودة للماضي، متمسكين بسلفية الكهنوتية الثيوقراطية الدينية، مستمراً في ذات الوقت بتحليل نظم الحكم في عهود الخلافة المتعددة - طارحاً في مرآة الحاضر، وعلى ضوء الحاجة المستقبلية الملحة للتجاوز والتطور - مجمل الصراعات والاقتتالات العبثية التي نشبت باسم الدين حينها، في حين كانت من أجل السلطة بالتأكيد، ولم تضع قدراً عالياً للإنسان وتنميته، ولا اعتباراً حقيقياً لأهمية تطور المجتمع والدولة كذلك. على أنهم اغتالوه في النهاية، وهو الذي كان يرى في التحريض الديني خطراً همجياً ترهيبياً على الأفراد والأمم وبنيان الدول، أي بشكل خاص على مفاهيم التفكير الحر والتعايش المجتمعي الخلاق وتقدم مفهوم الدولة نفسها، مشدداً على أن حكم رجال الدين لابد أن يقود لمزيد من الانحطاط الفكري والطائفي والوطني في آن. باختصار: كان فرج فودة بارعاً وهو يستعرض في كتبه الثرية ما أفضت إليه كل تلك الفيروسات الراسخة في الذهن العربي الإسلامي طوال عقود، من أمراض تطرف وغلو وسطحية وتدجين للوعي وفهم مغلوط للدين، من الصعب الشفاء منها كأمراض مستفحلة، مابالكم ونحن لانزال آملين بالنجاة منها، رغم تفاقم كل فيروسات الذهن العربي الإسلامي أكثر، بحسب ما نشهده اليوم. وللأسف: كان الرئيس المصري السابق محمد مرسي قد أفرج بقرار عفو رئاسي صادم جداً عن أحد الضالعين المباشرين في جريمة اغتيال فرج فودة ومعه 13 آخرين من عناصر الجماعة الإسلامية كانوا أدينوا في عديد جرائم متفرقة. لذلك نقول: المجد والإجلال لروح مفكر موضوعي نابه، ومن طراز فريد، كالمصري فرج فودة.. وبالمقابل: خلاصة اللعنة كلها على الجبناء البلهاء، وعلى الأوغاد الأشرار، الذين اغتالوه معتبرين أن تغييبه القسري كجسد سيفضي بالضرورة إلى تغييب فكره ومحو مراكماته المغامرة والجريئة للوعي السليم بالدين والدولة والمجتمع والسياسة...إلخ. لكن من قال إنه بالإمكان اغتيال المعرفة أصلاً؟!! [email protected] رابط المقال على الفيس بوك