زرتُ الجمعة الماضية جامع الجند، كانت لدي رغبة لزيارته، كنت برفقة بعض الأعزاء, استقبلنا الجامع بوجه شاحب وحزين أشبه بسجين مُضرب عن الطعام، ولجنا الجامع الذي يبدأ بنزول درج إلى بهو واسع يحكي عن عبور أجيال من خلق الله مرّوا من هنا؛ منهم عظماء كان أعظمهم العملاق معاذ بن جبل الذي أسّس هذه المدينة وهذا المسجد التاريخي الذي يُعد كنزاً أثرياً كبيراً؛ لو أنه في مكان آخر لحفوّه ولفوّه ودللّوه ليكون مزاراً للعالم وفخراً. كانت الخطبة رائعة؛ أعني حيّة، وكم من خطباء «يجرّعونا» خطباً ميتة لا صلة لها بالحياة والواقع ومناقشة مسالك وقضايا الناس، بعد الصلاة لم ننصرف وإنما زُرنا المسجد شبراً شبراً، كان لدي إحساس ورغبة في تحسُّس مواقع الصالحين وسجداتهم، هنا وقف معاذ بن جبل الشاب والعظيم اليمني العالم الفقيه ورجل الحرب والسلم ورجل الدولة والعدالة، صاحب الحياة الثرية عابرة الأقطار من الحجاز إلى اليمن إلى الشام؛ من التعليم والدعوة والثورة إلى الحكم والقضاء وقيادة الجيوش, مات ولم يتجاوز عمره السابع والثلاثين ربيعاً, حاولت أن أسافر في الزمن الماضي لأسلّم على الرجل، فاكتفيت بطلب من العزيز عبدالفتاح اسماعيل أن يلتقط لي صورة في محراب معاذ بن جبل الذي هو اليوم غير المحراب الجديد، وقد أبقوا عليه حفاظاً على الأثر، وحسناً فعلوا ذلك؛ لأن طمس الآثار طمسٌ للتاريخ وأرواح الآباء والأجداد. بالمناسبة أنا متألم جداً لما تمّ في مسجدي «المظفر» والأشرفية والمساجد القديمة في تعز من طمس مقصود للآثار والرسومات والخطوط المبهرة على الجدران «بجص» أبيض وبليد، وهذا يحتاج إلى كلام كثير ليس مكانه هنا، فنحن في زيارة أول مسجد بتعزواليمن بعد المسجد الكبير في صنعاء على ما أظن بعد «معاذ» مرّ على المسجد ناس وعلماء وصالحون ودول، الدولة الرسولية والأيوبية تتزاحمان في الحضور، فهما من شيدتا وبنتا ووسّعتا المسجد والبهو الكبير وإن كان الرسوليون قد استحوذوا على النصيب الأكبر وبعدهم الأيوبيون، المنارة التي بناها الرسوليون كانت شامخة، لكن بدا عليها الإنهاك الشديد، فكل المسجد مهملٌ بشكل مفزع يعكس اللا دولة ولا مجلس محلي ولا تجار ولا ذوق ولا حياة لمن تنادي، كيف تتركون مسجد صاحب رسول الله في العراء وهو جزء من تاريخكم..؟!. لقد كان أجدادنا أفضل وأكرم وأكثر إدراكاً لمعنى التاريخ والتراث، وسجّل هنا الرسوليون سبقاً رائعاً؛ فهم موجودون أينما ذهبت خاصة في مدينة تعز عاصمة اليمن الكبرى في عهدهم، حيث توحّدت فيه اليمن لأول مرة، واستمر الحكم لمدة تزيد عن مئتين وستين سنة، حيث بلغت أطراف الدولة كل اليمن المعروفة اليوم مضافاً إليها عُمان والحجاز وحتى الأردن في تخوم الشام بحسب المورخين وكانت هذه الدولة تهتم وتكرِّم العلم وطلاب العلم بشكل خاص، أقول هذا وأنا أرى مسجد «الجند» قد تُرك للشمس والريح وعوامل التعرية من أيام الرسوليين والأيوبيين لتراه آيلاً للانقراض خاصة والجامع كان قد تعرَّض لهزة أرضية أو ما شابه أدّت إلى هبوطه بشكل كبير لدرجة أنك تنزل إليه بالدرج عندما تدخله؛ مع أنه في الماضي كان يُصعد إليه صعوداً عن طريق «درج» أصبحت مطمورة في الأرض بحسب خطيب الجامع الحزين. تركتُ هذا المكان المُهيب، ونظرتُ إلى منارته مودِّعاً وهي تبكي وتدمع من شدة الإحساس بالغُربة من المكان والناس الذين يتعاملون مع آثارها وتاريخها كمجرم مُعتقل لا حقوق له ولا كرامة كما يفعل «عبدالفتاح السيسي» بالإنسانية في مصر هذه الأيام..!!. جامع الجند.. تاريخ وروح يحتاج إلى من يتنبّه له ويحميه من الاندثار البادي على جنباته، وهذا نداء عاجل إلى كل مسؤول وكل قادر في هذا الوطن المرتجف برداًَ وعقوقاً..!!. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك