إن هوية كل أمة هي عبارة عن مجموعة التصورات التي تحكم وعيها وتفكيرها وسلوكها اليومي من خلال المجتمع الذي يجب أن يستوعب تلك التصورات التي تتصل مباشرة مع المخصب الأول لتلك الهوية وهو الإسلام الحنيف ، لأن الهوية تعتبر البصمة الشخصية لها التي تميزها عن غيرها من الأمم ، وتكسبها تميزا وتفرداً ذاتياً، مثلما تعمل في كل المراحل والظروف ً للحفاظ على كينونتها من جهة واستمرار تواصلها الحيوي وتفاعلها الحضاري عبر الأجيال من جهة أخرى. فخلال أربعة عشر قرنا من الزمن امتلكت مقومات النهوض والتميز ، تأصلت وفق روافد روحية وعملية وسلوكية وفكرية وثقافية متنوعة تتوزع في اتجاهات رئيسية أبرزها : الدين واللغة العربية والتاريخ والإسهام الإنساني والحضاري ، منذ اللحظة الأولى للبعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، واتصال الإنسان بربه مباشرة دون واسطة او متعهدين كما شاع عند أبناء الديانات السماوية السابقة ، زاد تلك الهوية تجذراً وعمقا وارتباطا بالإنسان المسلم ومتغيراته الحياتية ، شمولا في قيمه ومعتقداته ومقاصده التشريعية، مثلما حملّها نوراً ربانياً يجدد لها الحياة كلما آلت إلى السكون والانغلاق أو الانطواء على الذات ، منذ اللحظة نفسها التي أعلن فيها ميلاد أمة الإسلام عقدياً وحضارياً وتاريخياً، ابتدأ الزمن الإسلامي عقديا وتشريعيا وإنسانيا وحضاريا يحكم وينظم الحياة البشرية بمسؤولية واقتدار . تتمتع الهوية الإسلامية بتصورات وسطية وخصائص ومقومات تفتقد في غيرها من هويات الشعوب والأمم الأخرى ، لاحتوائها عوامل التجدد وعناصر المرونة الذاتية ، وعدم قابليتها للذوبان أو الانقراض في أحلك الظروف وأشدها، فالهوية الإسلامية –وتلك خاصية تتميز بها عن غيرها –قادرة على تأسيس قاعدتها ومد جذورها وتعاظم وتيرة فاعليتها في عمق الانتماء الروحي عقيدة ولغة وحضارة ، تتجاوز حدود الجغرافيا والانتماء الحضاري والعرقي واللغوي ، نظرا لكونها تمتلك شبكة متكاملة وحيوية من القيم الثابتة والمتغيرة في مسار الأمة العقدي ، الفكري ، الثقافي والأخلاقي ، الأمر الذي جعل افقها يتسع باتساع الجغرافيا البشرية والطبيعية ، ويتنوع شكلاً ومضموناً ، مع تنوع المتغيرات وتجدد الحاجات الإنسانية في الزمان والمكان. تنفست الهوية الإسلامية الحرية واستجابت للتجدد الذاتي والعصري ، بل وشعرت بالصحة الذاتية في الفترات التاريخية التي كانت الشورى فيها سلوكاً وممارسة ، تحكم التراكمات والمتغيرات الاجتماعية ، الشورى التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدولة الإسلامية ، وهي فترات قليلة لكنها ظلت نموذجاً رائعاً للتكامل بين عظمة القيم وطموح الإنسان المسلم في التغيير والإبداع ، وعدم اقتناعه بالدور الاستثنائي في قيادة الركب الإنساني. إن حيوية الهوية الإسلامية واستمرار فاعليتها تكمن في تجدد تلك الروافد الثابتة والمتغيرة معا في وعي وسلوك الفرد والمجتمع والدولة ، وتأثيرها الايجابي في ضمير الفرد والأمة واستجابتها لطموحات الأجيال الإسلامية عصرا بعد عصر ، وقبولها للآخر شريكا في الحراك اليومي للمجتمع ، أضف إلى ذلك أن مقوماتها الذاتية ومرتكزاتها الفكرية تتمرد على الجمود ، الأمر الذي يجعلها تتجدد على الدوام ، لأن الإسلام الحنيف بمصدريه الكتاب والسنة قد كفلا للجميع الحرية المسئولة والمنضبطة ، التي تبدأ بالفرد وتنتهي بالأمة ، يتمثل ذلك التفاعل الايجابي من خلال دورها في صناعة الفرد والمجتمع والأمة على السواء ، بل وإحداث الحراك الاجتماعي المطلوب من أجل البناء النوعي المجسد لروح المعتقدات ومتطلبات العصر،بعيداً عن استغلال المراكز السلطوية النفعية القاصرة و الموبوءة في اغلب العصور بحيل النظام السياسي الحاكم وتأثير مصالح القائمين عليه أو الفقهاء المنتفعين منه، لعدم قراءتهم أو ربما فهمهم لمتغيرات الزمان والمكان والإنسان ، أو عدم استيعاب لثوابت العقيدة ومرونة وتجدد الشريعة الإسلامية. إذ لابد في كل الحالات من طرح أسئلة موضوعية تختزل حاجيات ومتطلبات العصر ، وتنقل بدورها الفرد والمجتمع والأمة إلى الفعل والتفاعل والمدافعة الحضارية ، والمحاولة بل والإصرار على تحقيق الإضافات النافعة والمتميزة للإنسانية جمعاء ، من تلك الأسئلة البديهية التي تطرح نفسها هي : كيف تنهض الهوية الإسلامية وتتقوى مع التمثل الشوروي أو ما يسمى بالممارسة السياسية القائمة على التعدد والتنوع في الأفكار وتحقيق الشراكة المجتمعية بشكل طبيعي في اتخاذ القرارات وإداراة المؤسسات ؟ كيف نحدث تغييرا في نظمنا وممارساتنا السياسية والاجتماعية كي تخدم وتنمي وتنهض بالواقع المعيشي ؟ ، كيف نحول الهوية الإسلامية إلى أداة تحفيز للأجيال على الفعل والخلق والإبداع المتجدد ؟. إن الديمقراطيات الحالية تطورت في مراحل وعصور شكلت الشورى الإسلامية إحدى أهم روافد تلك التحولات العميقة في البناء الديمقراطي والتي تسربت إلى المجتمع الغربي عبر الأندلس ، ثم عدلها حسب بيئته ومعتقداته وتحولاته الحضارية وحاجاته الإنسانية، وبحسب حراكه الاجتماعي المستمر، كما أثرت في مجريات بنائها الحيوي الثورات التي أوقفت انتهازية وعبث واستغلال السلطة والكنيسة معاً ، تمردت تلك المجتمعات عليهما لأنهما كانتا (أي الكنيسة و السلطة) تقفان ضد العقل والدين والفطرة الإنسانية ، لقد سعت عبر المراحل والحقب التاريخية المظلمة إلى كبح كل من يدعو إلى المجتمع المدني المقام على حفظ الحقوق والحريات العامة واحترام إنسانية الإنسان . هل نستعيد دورنا كأمة ونعكف على إصلاح وتحديث تصوراتنا وأدواتنا وأساليبنا التغييرية بما يتلاءم ومعتقداتنا الوسطية، ومقاصدنا التشريعية ، وإمكاناتنا المادية ، ومخزوننا الحضاري ،ويواكب - في الوقت نفسه -حاجاتنا العصرية الملحة ، سعياً لدعم القيم ومد هويتنا بعناصر التجدد والاستمرارية على اعتبار أن النظام الديمقراطي شكل من أشكال إدارة الحياة في المجتمع الإنساني المعاصر، ويمكن تشكيله وتفصيله حسب أبعادنا العقدية والحضارية والاجتماعية والفكرية والثقافية وحاجاتنا الواقعية ؟، أم أننا سنساعد قهراً وجهلاً على تحطيم إمكانيات النهوض وقطع الطريق أمام اكتساب أمتنا القوة الذاتية الفاعلة والبانية بحجة حماية هويتنا الإسلامية من الآخر، وفرض الوصايا المغلوطة عليها، ومحاصرتها بسياج الفهم الفاسد للدين والحياة معا ؟ . إن المتتبع لموضوع ومفهوم الهوية في وعي وتفكير وثقافات وسلوكيات المجتمعات الإسلامية يجد أن تلك المجتمعات بكل مكوناتها قد أفرغت من هويتها ، تعيش في غياب كامل لفعل وتأثير الهوية ، باعتبارها الطاقة الدافعة للمدافعة الحضارية ، والمحفز ألأهم للعمل و الإنتاج والإبداع والتميز والنهوض ، إنها البوصلة التي توجه تفكير وحراك المجتمعات الإسلامية نحو الحضور الحضاري والإنساني الفاعل . تتشكل أهمية هذه الدراسة من أهمية المدروس والمبحوث فيه وهي الهوية الإسلامية في عالم متغير لم يعد ينتظر أحداً حتى يصحو من نومه ، أو يعود من رحلة التيه والضياع التي دخل بها أو دُفع مجبرا إليها ، ولذلك يمكن إيجاز بعض تلك الأهمية في النقاط التالية : التركيز على إيضاح وتبيين مفهوم الهوية كطاقة للتفاعل وتشكل فكري وثقافي وسلوكي . الوقوف على فاعلية الهوية في وعي وتفكير وسلوك الفرد والجماعة ومؤسسات الدولة وجوداً وعدما . معرفة الأبعاد الموضوعية التي تحكم التفاعل بين الهوية الإسلامية والشورى كنظام يتعلق بإدارة الحياة ومؤسسات المجتمع ، وإزالة التخوف الذي يلازم البعض منها ، ولابد من معرفة درجة تأثر الهوية سلباً أو إيجاباً بالنظام الشوروي (الديمقراطي ) بحيادية وتجرد كاملين. توجيه أنظار الأجيال إلى دراسة مكونات الهوية ودور الشورى كنظام فعلي يعمل في تنمية تلك العوامل ، والدفع بها إلى الفعل الايجابي في واقع الحياة ، لا أن تبقى الشورى شعاراً نظرياً لا أثر له في حياة المجتمع . [email protected] رابط المقال على الفيس بوك