قد يتساءل الكثير بتعجب شديد .. لماذا تقف الشعوب العربية عند أقصى مستويات الضحالة الفكرية والسياسية ولماذا العرب دون غيرهم متأخرون جداً مقارنة بالحال التي وصلت إليه أغلب دول العالم سواء في قارة آسيا أو أوروبا أو الأمريكيتين رغم سبقهم الحضاري والمعرفي ومتى يكون لقيم الحرية والديمقراطية تقبل عند العرب استعاضة عن براثن الاستبداد وأوضار الديكتاتورية التي يتعايشون معها دون ملل ؟ هل ما عانته وتعانيه العرب في حقب الاستبداد السياسي من صراع دموي على السلطة ليس كافياً لاعتناق مبادئ الديمقراطية والتحرر من وطأة التخلف ؟ أسئلة محورية بحاجة إلى أجوبة ليست بالقليلة لتوصيف المشهد السلبي الذي يمر به العالم العربي ، لكني سأحاول جاهداً الوقوع على مكامن الخلل وجذور المشكلة لعلي أستطيع العثور على الحلول أو جزء منها. التأهيل السياسي يمر الإنسان منذ طفولته وحتى بلوغه بمراحل تأهيل سياسية يتولى القيام بها مؤسسات وأدوات عدة ؛ وأهم تلك المؤسسات العائلة ، المدرسة ، وجماعات المصالح أو الأحزاب السياسية . فالعائلة تعتبر أول مؤسسة للتأهيل الاجتماعي يواجهها الفرد وتكون قوية وراسخة ، وأبرز هذه التأثيرات هي تشكيل توجهات الطفل نحو السلطة ، والعائلة تتخذ قرارات جماعية قد تكون هذه بالنسبة للطفل قرارات سلطوية وعدم إطاعته لها قد تؤدي إلى معاقبته ، والمشاركة المبكرة في عملية صياغة القرارات العائلية قد تزيد من إحساس الطفل بالأهلية السياسية وتزوده بمهارات التعامل السياسي وتجعله أكثر استعداداً للمشاركة بفعالية في النظام السياسي حين يصبح بالغاً . كما أن عدم مشاركته في صنع القرارات العائلية تعرضه مستقبلاً لأن يكون تابعاً سياسياً لا يملك زمام قراراه ولا يدافع عن حقه في المشاركة السياسية .أما المدرسة ، فلها دور ملحوظ في تغذية المراهقين بالمعارف عن العالم السياسي ودورهم فيه كما تزود الأطفال بتصور أكثر رسوخاً عن المؤسسات والعلاقات السياسية ، وتنقل المدرسة أيضاً قيم وتوجهات المجتمع ولها القدرة في تشكيل التوجهات الخاصة بالقواعد غير المكتوبة للعبة السياسية لترسيخ القيم العامة عن الواجب العام والعلاقات السياسية غير الرسمية والاستقامة السياسية ، كما يمكنها تعزيز التأييد للنظام السياسي وتدعيم الولاءات التقليدية وأيضاً لها قدرة على تكريس الفروقات بين الأجناس . وتلعب مجموعات المصالح والأحزاب دوراً مدروساً وهاماً في التأهيل السياسي ، وتحاول الأحزاب السياسية أن تصيغ قضايا مختارة وتثير اهتمام المواطنين فيها وان تجد قضايا جديدة في أثناء حشدها الدعم للمرشحين . وما يعانيه العالم العربي هو غياب أو شحة وجود أحزاب تقوم على أسس براجماتية عملية لا على أفكار أيديولوجية أو معتقدات دينية وأغلبها يعتمد على الجانب الديني لا الجانب البراجماتي في مسألة الحشد ولذلك أغلبها غير مؤهلة لتوجيه وعي الشعب السياسي. مشكلة الوعي في العالم العربي الوعي المكتسب لدى أبناء العالم العربي يشكو من ضحالة فكرية وسياسية ؛ وذلك لعزوفه الكبير عن الاهتمام بالقضايا ذات البعد السياسي وخاصة فيما يتعلق بمسألة الحكم والمعارضة ؛ وهذا لا شك يعود إلى أسباب عدة منها توجه النظام السياسي الحاكم إلى شغل تفكير الفرد بأساليب العيش وتوفير حاجياته ما يكون عائقاً أمامه بالتفكير أو الاهتمام بقضايا السياسة . وفي نفس الإطار يلعب تأثير الأنظمة المستبدة والديكتاتورية دوراً هاماً في عزوف الفرد العربي عن السياسة من خلال الاستجابة السلبية لتطلعاته ورغباته وعدم إتاحة الفرصة لصوته الانتخابي في تحديد من يحكمه ويمثله سياسياً ، عبر وسائل لا قانونية كتزوير الانتخابات أو إصدار قوانين جائرة تمنعه من المشاركة السياسية . وهذا كله خلف نتيجة مزرية تعكس عدم تقبل الفرد العربي للحرية والديمقراطية لأنه لم يعايشها لا في واقعه الأسري ولا الاجتماعي ولا السياسي ويجد نفسه متأقلماً مع الطرائق المستبدة في الحكم حتى لو صادرت حريته في الرأي والفكر. ما ينقص المجتمع العربي بعد أن استعرضنا مؤسسات التأهيل السياسي وأدوارها ، نستطيع القول بأن ما ينقص المجتمع العربي هو توليفة متكاملة من المؤسسات ذات الثقافة السياسية التي تكسب الفرد العربي وعياً سياسياً يجعله قادراً على المشاركة بقوة في صناعة القرار السياسي وفي إقامة العلاقات السياسية الرسمية وغير الرسمية . فالعائلة مثلاً عليها أن تفسح المجال لمشاركة أبنائها في صياغة القرارات العائلية منذ الصغر وعدم الاكتفاء بجعله متلقياً منصاعاً لها دون إبداء اعتراض أو طرح رأي وهو ما سيعمل على بناء أفكاره السياسية وإحساسه بالأهلية السياسية التي ستنعكس في تعامله المستقبلي مع النظام السياسي ما يجعله مشاركا لا تابعاً . كذلك المدرسة ، عليها أن تواصل مسيرة العائلة في توجيه الطفل سياسياً من خلال توسيع مشاركاته العلمية في المدرسة وتبصيره بالواقع السياسي وحثه على الاطلاع والمتابعة للقضايا السياسية ، وترك مساحة واسعة للنقاش وتمكينه من طرح رأيه بكل جرأة دون ردع ، وحثه على المشاركة في صناعة القرارات المدرسية ، وأيضاً على وزارة التعليم والتعليم العالي في العالم العربي إضافة مادة توعي الأفراد بحقوقهم وواجباتهم إزاء النظام السياسي حتى يكونوا قادرين على المطالبة بحقوقهم وتأدية واجباتهم على أكمل وجه . أما الأحزاب ، فيأتي دورها ختاماً لكل ما سبق ، فعليها أن تقوم بالتأهيل والتوعية السياسية للفرد من خلال الدورات التثقيفية وإحياء الفعاليات والمهرجانات وأيضاً الاعتماد على آراء الشباب في الأطروحات والبرامج وإشراكهم في تشكيل أهداف الحزب وبرامجه وفعالياته ففيهم تكمن عوامل الإبداع والابتكار وهم من سيقودون دفة المستقبل. خاتمة والوعي السياسي العربي بدأ يأخذ متنفسه بعد ثورات الربيع العربي التي أحيت في الشعوب العربية روح التحرر من سجون الاستبداد الفكري والسياسي وحفزتهم على التفكير في المستقبل وشعروا مؤخراً بأهمية السياسة وتنمية الثقافة السياسية . وإني على ثقة تامة بأن الشعوب قد فاقت من غفلتها وتخلت عن بلادتها واتقدت فيها نار الصحوة وأصبحت مدركة للواقع السياسي المعاش ، ولكن تلك الصحوة بحاجة إلى ترشيد وتوجيه صحيح لأن الشعوب العربية لم تكتمل ثقافتها السياسية بعد ولا زالت بحاجة إلى غرس قيم الديمقراطية والحرية بأسلوب عملي ، ولا زالت أمامها بعض العراقيل ولكنها ستزول عن قريب إذا ظلت الشعوب متيقظة ونابهة للتغيرات الحاصلة من حولها. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك