الإنسان جوهر المشكلة الحضارية .. لكن النخب السياسية والثقافية العربية عندما تريد معالجة الأخطاء تتحاشى وضع يدها على مكمن الوجع الحقيقي, وهذا هو شأننا نحن العرب, أناس هروبيون, متحذلقون في إلقاء اللائمة على النصوص, نكثر من التنظير والسفسطة وادعاء الموضوعية والدقة في التشخيص, ومن أجل ذلك ننفق الوقت والجهد والكثير من الأموال, وفي الأخير نخرج بتصورات عاجزة عن وضع حد للمشكلات التي نعاني منها .. وعلى هذا المنوال نسير من عشرات السنين, وفي كل مرة نؤكد للجمهور: (إننا نبذل الجهود من أجل التطور), ونحن في واقع الأمر نزداد تخلفًا .. في حين إذا التفتنا يمنيًا أو شمالاً وجدنا أممًا تنهض, واقتصاديات تتعملق بعد أن كانت بالأمس في الحضيض, وليس ذلك إلا لأنها مارست نقدًا ذاتيًا, ولم تنشغل بالشكل على حساب المضمون, ولا بالنص على حساب الفعل والإنجاز. الإنسان في عالمنا العربي هو الذي يعتدي على الدستور والقانون والنظام .. هذا الإنسان هو الذي يتخاذل عن إيقاع العقوبة القانونية بحق من يستحقها ليقوم ميزان العدل وتحيا الأمة .. هذا الإنسان هو الذي يتخاذل عن إيقاف الظالم عند حده إذا ظلم, والسارق إذا سرق, والعابث إذا عبث, والمفسد إذا أفسد, وحين يأتي العزم لمعالجة الأوضاع نصغر أمام هذا الإنسان المخطئ ونتحاشى الوقوف في وجهه, ثم نذهب في مغالطة أنفسنا بأن جوهر المشكلة ليس إلا في النص, في الدستور, في القانون, في اللائحة...إلخ. السياسيون العرب يهربون من نقد الذات إلى إلقاء اللائمة على الدستور, مؤكدين أنه بحاحة إلى إصلاح وأن ما فيه من خلل هو جوهر المشكلة.. وإذا أصلح في زمن ما أو جرى استبداله هدأ السياسيون برهة, ولكن ما إن تتفاقم المشكلات التي يحدثها الإنسان حتى يعودوا ليقولوا إننا بحاجة إلى إصلاح الدستور, متناسين أننا بحاجة إلى إصلاح هذا الإنسان أولاً, وهكذا تظل المشكلات تنخر جسدنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ونحن نزعم ألا نهوض ولا تطور إلا بتطوير الدساتير والقوانين ومع ذلك نطورها ولا نتطور, والسبب أننا مرضى بمحاكمة النصوص, ونأنف عن محاكمة الذوات التي هي سبب التخلف ومصدر الداء. قد يكون لدينا من النصوص المنظمة ما ليس عند غيرنا من أمم الأرض.. لكننا مع ذلك نظل أكثرهم تخلفًا .. وقد تكون حكوماتنا أكثر الحكومات التي تنشغل بتعديلات القوانين, وبرلماناتنا أكثر البرلمانات العالمية في سن التشريعات, ولكننا مع ذلك أكثر تهميشًا لها لأن الذات هي المشكلة.. فالذات المريضة هي التي تجمد القانون, أو تتحايل عليه, أو تتعامل معه بمزاجية فتطبقه على من تريد وتعفي منه من تريد. لقد تطور هذا الهروب إلى أن أصبح ظاهرة .. فالمسؤول عن مصلحة معينة يسارع في تسويغ فشله بأن المشكلة في القانون .. القاضي يصر على أن القضاء لن ينهض إلا إذا أعطى النص للقضاء استقلالية كاملة, لكنه لن يعترف بأن القاضي نفسه يعد جزءًا كبيرًا من مشكلة القضاء, وأن الأصح هو استقلال القاضي قبل استقلال القضاء .. التربوي أو الأكاديمي يسوغ رداءة التعليم بأن المشكلة في النص/ المنهج .. المثقف يترفع عن نقد الذات, مختزلاً كل المشكلات في النص. إذن الكل أدمنوا الهروب من المساس بمركزية الذات إلى تحميل النصوص كامل المسؤولية.. ومع ذلك لا تستطيع كل حركات التحديث والتطوير للنصوص أن تلجمنا عن توجيه اللوم على النصوص .. ولا عيب في النصوص وإن شابتها أوهام وأخطاء, لأنها نصوص بشرية ولا بد أن يعتريها نقص, إنما العيب فينا نحن أصحاب العقل والتكليف .. فنخن من نقصر في أداء مسؤولياتنا, ونقصر في محاسبة ذواتنا, ونعجز عن الارتقاء بأدائنا لننهض .. نحن من نجعل من الأنظمة والقوانين شماعة نعلق عليها أخطاءنا. وإذن: لماذا لا ننهض؟ .. لماذا لا ينهض التعليم والصحة والخدمات ونحن أكثر من يعقد الورش ويقيم الدورات والندوات, وأكثر من يشكل اللجان ويضع الخطط؟, والجواب أننا في حقيقة الأمر لا نريد أن ننهض, فقد تعود المسؤول واستقر في ذهنه أن الروتين والتحايل والمحسوبيات هي النظام وهي القانون, وتعود المعلم أن مجرد الإلقاء أو الصراخ هو التعليم, وتعلم القاضي أن أسلوب التطويل والتطفيش الحالي في التعامل مع المتخاصمين هو القضاء .. بل وتعلم الكل أيضًا أن إحداث أي نقلة في التعليم أو الصحة أو القضاء أو الخدمات لا بد أن يكون في النص أولاً, فهو جوهر المشكلة. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك