يعتبر القضاء كمنظومة واحدا من أهم ضمانات تحقيق التنمية حيث انه يعد الملاذ والحصن الذي يحتاجه القائمون على النشاط التنموي للقيام بأنشطتهم، ومع تباين نسبي هنا أو هناك فإن السلطات القضائية في المنطقة العربية تقع تحت هيمنة السلطات التنفيذية وتتبعها حيثما سارت مع وجود استثناءات ليست محلا للقياس، وإن كان الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. وفي اليمن يأخذ الأمر طابعا أكثر تعقيدا وأشد مرارة حيث أن البناء المؤسسي يكاد يكون منعدما على جميع المستويات والقضاء ربما المثال الأبرز على ذلك، فمشكلة القضاء في بلادنا أنه يكاد يكون المؤسسة الوحيدة التي لم تؤثر فيها الثورة - باستثناء محدود لم يكتب له الاستمرار في عهد الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدي (1974-1977م)- كما أنه المؤسسة الوحيدة التي شهدت مزيدا من الانحدار بعد قيام الوحدة قبل خمس عشرة سنة فثقافة النظام القضائي العثماني كانت سائدة في الشمال والنظام الانجليزي في الجنوب وظل التغيير محصورا بهذه الثقافة دون تطوير يراعي طابع الخصوصية للمجتمع اليمني مثل أي مجتمع لديه خصوصية تفرضها ظروف الزمان والمكان. ومع وجود محاولات حديثة لانتشال القضاء من أزمته ضمن رؤية واسعة للبحث في مخارج من الأزمة التي تعاني منها مرافق النشاط السياسي والاجتماعي المختلفة فقد وضع وزير العدل الأسبق الأستاذ اسماعيل الوزير برنامجا للاصلاح القضائي اسماه ((المعالم الرئيسية لخطة الاصلاح القضائي)) وجاء في مقدمة الخطة ما نصه((وفي ظل الاجماع السائد واعتراف مختلف المؤسسات الدستورية بوجود الكثير من مظاهر القصور والسلبيات في أوضاع السلطة القضائية والتي تعكس نفسها سلبا على مختلف أنشطة الدولة وخططها في مجالات التنمية والأمن والاستثمار والاصلاح الاداري والقدرة على تعميم الخير والرفاه والسكينة في حياة المجتمع، فقد أصبح موضوع اصلاح أوضاع القضاء بصورة شاملة لجميع هيئاته مطلبا مهما وقضية وطنية تفرض تضافر جهود جميع المؤسسات الدستورية..)) الا أنه وللأسف لم يتحقق شيء يذكر من الخطة وتوقف النشاط التحضيري للمشروع بعد خروج اسماعيل الوزير من الوزارة، وبعد تولي الوزير الحالي د.عدنان الجفري المسؤولية ورغبته في مواصلة ما بدأه اسماعيل الوزير فقد كانت الخطوة الأولى من خلال المؤتمرات القضائية التي انتهت بانعقاد المؤتمر القضائي في كانون الاول/ ديسمبر2003م لكن خطوات أخرى نحو اصلاح أوضاع القضاء لم يكتب لها النجاح وظلت الأوضاع في تدهور مستمر. وانطلاقا من أهمية رفع مستوى الكادر القضائي وتوفير البنية التحتية للسلطة القضائية. فانه سيكون من المنطق تأييد أي خطوات - رغم ما يظهر من اعتراض لدى بعض العناصر في وزارة العدل والمحكمة العليا والتفتيش القضائي- وهو ما يتوجب معه أن تتحرك جميع عناصر الطيف السياسي المؤمنة بالتحديث والراغبة في أن تتطور البلاد لدعم جهود اصلاح القضاء باعتباره واحدا من ركائز اصلاح وضع القضاء وزير العدل. وفي مقابل ذلك نتمنى أن تكون الاستجابة من الوزارة لهذا التحرك من خلال الانفتاح على الآخرين وهو ما ظهر من خلال الندوة التي رتبتها الوزارة بعنوان "القضاء والاعلام..نحو شراكة فاعلة لتحقيق العدالة" وكذا قرار الوزير بكفالة حق الرد للقضاة بشأن ما ينشر عنهم في الصحف الأمر الذي يساعد على الشفافية لكشف الأخطاء. وهناك مجموعة من الملاحظات عن واقع السلطة القضائية من خلال انطباعات الممارسة العملية في ساحات القضاء يمكن التفكير المشترك فيها. أولاً: احترام القانون ان وجود منظومة من القوانين لا يمثل الحل لأوضاع السلطة القضائية دون وجود احترام للقانون، والاحترام للقانون يمثل جانباً مهماً في المنظومة القضائية وهو سلوك مكتسب في الثقافة الانسانية، وينقل في التراث مقولة((ان الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)) والسلطان الذي نعنيه هنا سلطان القاضي، وما يلاحظ في هذا الجانب أن احترام القانون والالتزام بما يتضمنه من قواعد لا يجد اعتبارا لدى أهم الجهات المناط بها تطبيق القانون ومراقبة تنفيذه وفي المقدمة السلطات السياسية والتنفيذية المختلفة. ونجد أن هذا السلوك يمتد في بعض الأحيان الى السلطة القضائية، فالقاضي عندما لا يلتفت لما يطرحه أمامه المتهم من وقائع تحكي عن تعرضه للتعذيب أو ما يبديه المحامون من دفوع تتعلق ببطلان اجراءات معينة في بعض القضايا كالقبض أو التفتيش أو اجراءات سير القضية، يكون بذلك قد تجاهل نصوص القانون انطلاقاً من ثقافة لا تحترم القانون، وترى في القضية شكلها البدائي من دعوى واجابة دون اعتبار للتطور الذي عاصر اجراءات التقاضي، كما أن اصرار الجهات التنفيذية على اللجوء الى التصالح في قضايا متعلقة بانتهاكات أفرادها للقانون أو التستر عليهم عند ممارسة أعمال تتعدى على حرية الأشخاص تكون هذه الجهات تعبر عن عدم احترامها للقانون من خلال الالتفات عليه والضغط على الطرف الضعيف للحصول على تنازله دون اعتبار للقانون كقيمة أخلاقية قبل أن تكون نصوص منظمة وناظمة للعلاقات بين أفراد المجتمع، ولذلك فان الأثر الطبيعي الناتج عن عدم احترام القانون من السلطات أن أفراد المجتمع يمارسون نفس الدور في اطار علاقاتهم ويفقدون الاحترام الواجب للقانون كجانب قيمي بالدرجة الأولى. وهذا الوضع يمثل البيئة المناسبة والحاضنة لمظاهر الفساد بكل أشكاله المالية والادارية واستخدام القوة للحصول على الحقوق المشروعة منها وغير المشروعة..وذلك الحال يجعل العديد من القوانين حبرا على ورق لا تجد لها في الواقع أثرا للتطبيق. ثانياً:تطبيق القانون يلاحظ المطلع على الوضع التشريعي في اليمن أن هناك حزمة كبيرة من التشريعات والقوانين وبالمثل على صعيد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية حيث صادقت اليمن على مجموعة كبيرة من الاتفاقيات في مقابل تحفظات محدودة على هذه الاتفاقات، وقد أكدت المادة(6) من الدستور العمل بميثاق الأممالمتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان وقواعد القانون الدولي المعترف بها مما يجعل هذه الاتفاقات بمنزلة التشريع الوطني. لكن هذا الكم من القوانين وطني ودولي– على ما يعتور بعضها من قصور- لا ينفي حقيقة أن سيادة القانون في اليمن شيء لا يذكر بالمقارنة بالقانون المدون، دون اغفال أن هناك العديد من النصوص القانونية تجد طريقها للتطبيق منذ سنوات. ويلخص القانوني العريق الأستاذ أحمد الوادعي المظاهر الواقعية لاشكالية عدم تطبيق القانون بثلاثة مظاهر هي:- 1 - مخالفة القانون صراحة، وذلك باتخاذ مسلك أو موقف أو اجراء أو ترتيبات مخالفة أو مضادة لنصوص دستورية أو قانونية ثابتة وآمرة، وهذا هو الشائع في المخالفات. 2 - تعطيل حكم النص القانوني بطريق تأويله أو تفسيره على نحو يمسخ دلالته المعطاة من ألفاظه صراحة. 3 - الامتناع عن تطبيق القانون. بجانب هذه المظاهر لعدم تطبيق القانون يمكن استخلاص أن تطبيق القانون بحاجة الى ارادة حقيقية لتطبيقه وهذه الارادة مسؤولية جميع السلطات وفي المقدمة السلطة التنفيذية وبغير ذلك لا تستطيع السلطة القضائية تحقيقها. ثالثاً: القضاء الموازي يواجه القضاء في اليمن معضلة جوهرها انعدام وجود الدولة بمعناها المؤسسي وتنازع سلطات الدولة بين النظام السياسي والقبيلة ومخرجات الترهل والفساد في النظام السياسي، وهذا يؤثر على امكانية اصلاح الوضع القضائي بسهولة في ظل وجود قضاء موازي يتمثل في سلطة المشايخ والأعيان والمتنفذين بل وحتى عقال الحارات وهي تشكل من حيث تأثيرها ما يصح اعتباره مؤسسة يهمها أن يبقى القضاء متخلفا وعاجزا عن تجاوز حدود الأحكام التي يصدرها على الورق، ويظل التأثير والنفوذ وسيلة هذه المؤسسة في سعي المتقاضين اليهم، وقد بلغت هذه المؤسسة من السطوة ما جعل عددا من القضاة ينظمون اليها ويستغلون مواقعهم في ابعاد الخصوم عن قاعات المحاكم الى مقايلهم الخاصة لاصدار أحكام محكمين. ولا يجب أن يفهم الحديث عن التحكيم هنا أن هذا النوع من القضاء مرفوض ولكن المرفوض هو الخلط بين دور القضاء الرسمي وبين القضاء الاتفاقي المتمثل بالتحكيم حيث أن التحكيم بدأ يأخذ مساحة واسعة من الانتشار في ظل تطور العلاقات خاصة المالية والتجارية لكن ما يجري العمل به في اليمن هو قيام أطراف باكراه واجبار الأفراد على تحكيمهم واجبارهم على الخضوع لما يقررونه ويكون ذلك بالمخالفة للقواعد المنصوص عليها في القانون من اجراءات يجب اتباعها في أحكام المحكمين. رابعا: العنصر القضائي السلطة القضائية هي الفيصل في تطبيق القانون واستنطاق نصوصه الجامدة ومادة هذه السلطة هو القاضي والفريق الاداري بجانبه..ويقول أحد فقهاء القانون ((أعطني قاضياً جيداً وقانوناً رديئاً أحقق لك العدالة)) فأي قانون يوضع لتنظيم العلاقات يفترض نسبة من العيب أو النقص فيه، لكن القاضي الجيد يستطيع التغلب على هذا النقص القانوني ويستوحي من روح القانون والقواعد القانونية العدالة وجوهر ارادة المشرع، فاعداد القاضي الجيد وتأهيله وصقل مهاراته وتقوية خبرته وتوفير الضمان الصحي له ولأفراد أسرته وتوفير مستوى معيشي مناسب له يضمن قيامه بعمله على نحو يوصل الى تحقيق العدل. وفي الجانب الآخر يجب توفير ضمانات تحصين القاضي من التدخل في تكوين قناعاته وعقيدته لاصدار الأحكام وتجنيبه أي مخاوف من شأنها التأثير عليه. وبجانب ذلك يعاني القاضي أيضاً من عدم اكتمال ومحدودية امكاناته وسلطانه، ويعاني من عدم توفر الامكانيات المادية والبشرية اللازمة ليؤدي دوره بشكل كامل في المجتمع، وابسط مثال لذلك ان الأصل في مباني المحاكم أنها ايجار وتتنقل المحكمة الواحدة من مكان الى آخر أكثر من مرة، كما أن كثيرا من المحاكم تزدحم بالقضايا وبما لا يستوعبه الكادر الاداري والقضائي المحدود في المحكمة، مما ينعكس على أداء القاضي ويضيق الوقت أمامه للبحث والاطلاع ومتابعة التطورات الجارية من حوله. والثابت أن النظام القضائي في بلادنا لم يتطور على المستوى النظري، والعملي الى حد أن يصل لدى القاضي ما يقنعه بأنه ليس موظفا لدى السلطة التنفيذية ويؤدي لها خدمة عامة، وأنه كيان مستقل مواز لها ويمتلك من السلطات ما يجعله يوقفها عن تجاوزها. والحال أن القوانين لا تمنح استقلالاً فعلياً للقضاة بحيث يملكون كامل الارادة في اصدار الأحكام بين الأفراد وبعضهم أو بين الأفراد والسلطة التنفيذية... فالحق في التعيين والنقل والترفيع والتأديب والخضوع للتعليمات والتعميمات والحقوق المالية كلها قضايا لم تحسم باتجاه الاستقلال المفترض للسلطة القضائية. ان استقلال القضاء قضائيا وماليا واداريا هو الأداة التي من خلالها يمكن تحقيق العدالة في المجتمع وترسيخ قواعدها، وبغير استقلال القضاء يكون الحديث عن مبدأ سيادة القانون والمشروعية وتطبيق القانون لا معنى له. وتظهر علامات تأثير السلطة التنفيذية في التدخل في أعمال السلطة القضائية في القضايا الادارية والقضايا ذات المضمون السياسي كما هو حال قضايا الصحافة والقضايا التي يكون أطرافها نشطاء سياسيين ومن ذلك القضية الأكثر حضوراً في الفترة الأخيرة وهي قضية اغتيال الشهيد جارالله عمر(الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني) وكذا قضية سجين الرأي الصحافي عبد الكريم الخيواني. وهناك العديد من النماذج من القضاة التي عرفناها في القضاء أصدرت أحكاما وافقت القانون ولم توافق رغبات السلطة التنفيذية فكانت النتيجة النفي الى مناطق بعيدة ونائية عند كل حركة قضائية. خامسا: المحكمة العليا صمام أمان ان من أولى مهام القاضي تفسير النصوص القانونية أثناء نظر قضية معروضة عليه،ومهمته هي تطبيق القانون، ووسيلته في ذلك فهم وادراك حكم القانون والفهم يقتضي التفسير،والقاضي عندما يفسر القانون يتأثر بالظروف الموضوعية للنزاع المعروضة أمامه وقد تنعكس هذه الظروف على تفسير القانون،ولما كانت مهمة القاضي أن يفسر القانون عند غموض النص، وتطبيقه في نزاع قائم أمامه، وحيث أن تفسير القاضي يخضع لمحاكم أخرى أعلى درجة فان القول الفصل هنا يكون للمحكمة العليا، وهي المعنية بتثبيت وارساء مبادئ قانونية في ضوء القضايا المعروضة عليها.ومن هنا فان تفسير القانون مناط بالقضاء ومرجعيته المحكمة العليا، وواحد من أهم أسباب الخلل في السلطة القضائية هو ذلك الدور الغائب للمحكمة العليا والمتعلق بالتأصيل والنشر للسوابق القضائية التي تفتقر لها المكتبة القانونية للقضاة والنيابة والمحامين، فالشرح والايضاح والتفسير للنصوص القانونية ينبع من أن للنصوص مهمة تتمثل في البحث عن العدالة وفي ظل مظاهر اختلال الأوضاع في محاكم الموضوع (الابتدائية والاستئنافية) يكون الدور في التصحيح للمرجعية الأخيرة وهي المحكمة العليا التي نجد أنها لا تكتفي بالدور السلبي ولكنها تصدر تعميمات وقرارات يعتبرها الكثير من رجال القانون خاطئة سادسا: التنفيذ العاجز تظهر الممارسة العملية في ساحات القضاء أن المصدر الرئيسي للشكوى يتعلق بعدم تنفيذ الأحكام، وأزمة تنفيذ الأحكام مظهر هام في عجز السلطة القضائية وشللها في بسط سلطانها على المنازعات بعد خروجها الى حيز الوجود للتنفيذ بشكلها الانتهائي، فقضاة التنفيذ حتى اليوم هم الأقل اهتماما من حيث الامكانات المادية أو التأهيلية في المحاكم، وحتى المحاكم التي يتولى فيها رئيس المحكمة التنفيذ فانها تواجه مشكلة أن رئيس المحكمة يتولى أقساما أخرى ولا يعطي التنفيذ الحيز الكافي من وقته وتركيزه، وهذا يجعل الحديث عن وجود قضاء فعلي للتنفيذ في اليمن محل نظر، وهذه قضية بحاجة للبحث. تلك ملاحظات ليست سوى أرضية للنقاش والمشاركة في نقاش يدور بالفعل.. وبغير ارادة جماعية للاصلاح فان الأمر لن يتجاوز الأوراق. * محام وناشط حقوقي * نقلا عن مجلة (المراقب العربي)