مشهد النفايات المتراكمة في كل أرجاء المدينة لم يعد منظراً مقززاً للعين أو النفس، بل بات الأمر معتاداً عليه تماماً كما اعتاد الجميع السير على مياه الصرف الصحي كل يوم لدرجة أن لا يتحدث أحد عن هذا العبث الذي يعرض حياتنا وحياة أطفالنا للخطر يوماً بعد يوم، هذه هي المحافظة التي أطلق عليها رسمياً “المحافظة الثقافية” فأين هي الثقافة والمثقفون من كل ما يحدث؟ عمال النظافة معنيون بالأمر فعلاً وقولاً، لكن تلك العبودية التي يتعامل بها البعض معهم جعلتهم يبحثون عن مأوى آخر لإنسانيتهم، فمن حق هؤلاء أن يحصلوا على التثبيت الوظيفي كعمال نظافة، ومن حقهم أيضاً أن يحصلوا على امتيازات وظيفية في مجال عملهم هذا على أساس أن المهمة التي يقومون بها من أكثر المهام صعوبة على آخرين من أولئك الذين لعبت الخصخصة العرقية معهم دورها ببراعة. عمال النظافة لم يجدوا من الجهات ذات الاختصاص إلا ذات التهميش الذي وجدناه ونجده كل يوم أياً كانت انتماءاتنا العرقية، ولذا نقول: كلنا مهمشون، لكننا نتعاطف وبقوة مع أصحاب هذه المهنة الإنسانية التي أستطيع أن أسميها مهنة شريفة كونها لا تقل أهمية عن مهنة الطب أو الهندسة، فكما يداوي الطبيب أجسادنا من عللها المتراكمة، يداوي هؤلاء شوارعنا وحوارينا من سموم متراكمة تزكم أنوفنا وتقلب استقرار مناعتنا رأساً على عقب، إنهم يهندسون هذه البيئة المحيطة بنا تماماً كما يفعل ذلك مهندس معماري، أناملهم تقدم لنا خدمة جليلة لا نستطيع القيام بها، وقد جربنا ذلك في مناسبات سابقة منذ أن بدأ الربيع الثوري بالظهور على ساحة الوطن مخلفاً ثقافات كثيرة منها ثقافة الحرية التي تتعدى حرية الآخرين، بل وتلغي وجودهم في الحياة ومنها إلى الأبد. هؤلاء الناس ممن يجدر بأصحاب القرار احتواؤهم ورعايتهم، لكننا وصلنا إلى مرحلة احتواء القتلة والمتنفذين ومداراتهم والذود عنهم، وكأن مصلحة الوطن في أيديهم. ينبغي النظر إلى بعض المسائل المعلقة في سماء التسويفات السياسية نظرة عدل وإنسانية لأن عاقبة إهمالها ستكون وخيمة وسيدفع ثمن ذلك مجتمع بأسره، ليست النظافة البيئية وحدها هي المسألة المعلقة مؤخراً، فترك الساحة الوطنية مرتعاً لأرباب الفتنة والاقتتال والعنف الفكري واحدة أيضاً من مسائل هامة لا نعلم الأسباب الحقيقية التي تدفع بأصحاب القرار إلى التغاضي عنها وإهمالها إهمالاً متعمداً، يشعر المرء بالخوف والاختناق حين يحاول قراءة تلك الرسائل الدامية، أو التي تفوح منها رائحة الخيانة للوطن على مرأى ومسمع ممن يعول عليهم الشعب الوقوف في وجه كل موجة عنف مهما كان حجمها تحاول النيل من كيان الإنسان اليمني وثوابته الوطنية. ينقلنا سياق الحديث تلقائياً إلى الساحة السياسية رغم طرحنا لقضايا اجتماعية كثيرة، يستطيع المثقفون فيها أن يحصلوا على إجازة استطباب مجتمعية كونهم المعنيين ببث مشاعر الألفة والتوحد عبر كل وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعية، وعلى كل منبر من منابر الثقافة، وحتى لو كان لأطراف مناوئة رأي آخر حول هذا إلا أن القرار لازال في يد هذا الإنسان صاحب الفكرة والريشة والقلم والحكمة الممولة على جناح الخير، يستطيع هذا الإنسان أن يقول الكلمة الأخيرة في مقال الوضع الاجتماعي والبيئي الذي نعيش انهياره اليوم تماماً، كما عشنا انهيار أوضاعنا السياسية والأمنية بالأمس، فما الذي يدعو هؤلاء للصمت، وما الذي يمكن أن يدفعهم للكلام؟ ألم أقل لكن اننا فعلاً مهمشون تماماً، كما يهمش عمال النظافة وسواهم من الفئات ذات المهن البسيطة أو ما تسميها النخبة “مهن وضيعة” ترى هل يرى الساسة في مهنة الكتابة مهنة وضيعة أيضاً؟! ليتهم يفعلون حتى تتكدس نفايات العقل تماماً، كما تكدست نفايات منازلهم على الأرصفة.