تظاهرة عالمية فريدة احتشدت في مدينة “جوهانسبرج” الأفريقية أمس الأول “الثلاثاء” لتشييع جنازة رجل بكت عليه الأرض، وعشقته السماء رجل أدخل مماته الحزن إلى كل بيت، مثلما ادخلت حياته الفرح إلى كل قلب. ومن سيكون غير الأفريقي الأسمر نيلسون مانديلا ابن قبيلة الكوسا، القادم من بيئة التسامح إلى بؤرة العنصرية، فقرر رفع راية المساواة والتعايش، ليحيا الجميع بأمن وسلام... على العكس مما فعلته قبائلنا بالوطن والناس. أبحرت طويلاً مع مذكراته الرائعة “رحلتي الطويلة من أجل الحرية” من بداية شكره لوضاح خنفر العامل في الركز الإقليمي العربي لمساهمته في الترجمة العربية حتى الفصول الأخيرة والأكثر إثارة... كان مانديلا أستاذاً لرفقاء السجن، وأباً عظيماً لسجانيه. الشاب الأسمر تخصص بالقانون وأحب الملاكمة واحترف النضال. دافع عن أبناء بشرته، بلغة راقية وهدف نبيل، كان ملفتاً في خطابته، وبارعاً في اصطياد الفرص... مرةً دافع عن شغالة سمراء اتهمتها سيدتها البيضاء بسرقة ملابسها من خزانة الثياب، وقدمت السيدة البيضاء ملابس قالت انها ضبطتها في حوزة شغالتها، وحين وضعت الملابس المضبوطة على طاولة أمام القاضي لمح مانديلا أن بينها “مايوه” فرفعه بقلمه قائلاً: “هل هذا لباسك”، فخجلت السيدة البيضاء، وأنكرت ملكيته، وفوراً برأ القاضي شغالتها من التهمة. تلك احدى براعات مانديلا المحامي، قبل أن يدخل السجن لثلاث سنوات بتهمة التحريض ضد نظام التمييز العنصري، ليخرج بعدها في العام 1967 يشتعل ناراً ونوراً، ويبشر قومه أنهم على موعد مع فجر الحرية، وضحى يتسع ضوؤه للجميع. قاد المحامي البارع وهاوي الملاكمة مسيرات غضب سلمية طويلة، فجر حمم الغضب في نفوس الناس، وأشعل فيهم حتمية التغيير، وخطب واثقاً أن الأقلية البيضاء الوافدة لا يمكن لها حكم الغالبية السوداء المتجذرة في الأرض والتاريخ، صارع المستحيلات، وواجه العنف، وقبلها بدأ بتحرير الإنسان الأفريقي من فكرة العجز التي تسكنه، حرره من مخاوفه إزاء مقاومة الشبح الأبيض، القابض على الجيش والقضاء، والسلطة والثروة. ليتوج هذا الانتصار الرمزي بانتصار آخر هو دخوله السجن المؤبد، بحكم قضائي أبيض، قضى سنواته ال9 الأولى في سجون جوهانسبرج، وال18 سنة المتبقية في سجن جزيرة “روبن” الشهير، وهناك منح الحرية لسجانيه، كان يقول للسجان: أشدد عليّ حتى يجزلوا لك العطاء، أفعل ذلك من أجل أولادك. هل من متسامح كهذا. وداخل السجن كان أستاذاً لرفاقه، ومعلماً لهم، علمهم النضال، الصبر، قيم التسامح، نبذ التعصب، روح الحرية، التسامي، الكبرياء على الجراح، صلف العيش، مواجهة العنف باللاعنف، قال لهم: إذا استخدمنا العنف فقد منحنا عدونا الحق في استخدام القوة ضدنا، وإذا استخدم هو القوة فقد قرر الأدوات التي سيقضي بها على نفسه”... ومع ذلك لم يستخدم تلك الأدوات، وظل أعزلاً من المحيا إلى الممات. في العام 1990 غادر مانديلا سجنه، تاركاً للتاريخ زنزانة صغيرة، بأرضية رطبة، وصحفة معدنية، وثلاث بطانيات رمادية، وسريراً قصيراً من الخشب والفلين، وروائح ملوحة، وذكريات حزينة وصلبة في آن. منطوق الحكم العنصري قضى بتزامن العقوبة مع الأعمال الشاقة، وكان على مانديلا أن يعمل تحت وهج شمس أفريقيا من 8 – 10 ساعات يومياً، فأحرق سنوات عنفوانه في تكسير الصخور البيضاء في ذلك المحجر القريب من زنزانته، وظلت الأتربة المتطايرة تؤذي عيني مانديلا حتى وفاته، رحمه الله . ولابد للسيد فريدريك وليام دي كليرك من مصاحبة مانديلا في دخول التاريخ الجميل، فقد قرر هذا الرجل أن يكون آخر رئيس أبيض لجمهورية جنوب أفريقيا، ففي العام 1990 تم الإفراج عن مانديلا، وتشكيل حكومة وفاق وطني، ثم التدرج في تسليم مؤسسات الدولة لأصحاب الحق، وفي العام 1995 كان مانديلا هو الخيار الأنسب لرئاسة بلاده، وصعد رئيساً يغفر الماضي، ومتسامحاً مع الجميع، في لحظةٍ عصيبة، كان لابد فيها من تفكيك الإرث العنصري، وبعد خمس سنوات سلم الراية لخلفه..ولم يقل الزعيم مانديلا: “حقي.. تسلمتها وهي خرابة”.. وشتان بين زعيم و«زعيم». ولأن لا همّ له غير وطنه فقد قرر أن يكون سجن جزيرة روبن متحفاً، فكانت زنزانته أتحف ما فيه، وأصبح سجانه. حارساً للمتحف، وأصبحت الجزيرة قبلة لآلاف السياح من كل العالم... وقبيل موته أوصى ابن قبيلة “الكوسا” بدفنه في قريته “..........” البعيدة عن جوهانسبرج 700 كيلومتر، ليصبح قبره مزاراً ومتحفاً آخر، وسيقصده السياح، والزعماء، وستنتعش القرية اقتصادياً.رحمك الله أيها الكبير المتسامح... لا أجد ما أقوله عن رحيلك، غير ترديد مقولة ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا: “إن ضوءاً كبيراً قد أنطفأ”. رابط المقال على الفيس بوك