كعادته، يجيد الزمن الميت، تطبيع العلاقة بين المتناقضات، وتبليد دهشة الإحساس بمفارقاته، والتصالح مع الغرابة والقيم والمفاهيم والاعتبارات .. المقلوبة، مشكلة الزمن الميت ليست في القتل، الذي يخنق السماء، ولا في الفساد الذي ينخر الأرض، ليست في الجهل المقدس، ولا الفقر المعمم، ولا القبح والخوف والحرب والجريمة والكراهية.. بل في الفكر المستنير، والأمل الواعد، والجمال الخلاب، والإضافة الملهمة التي تبشر بالصيف والضوء والسلام.. مشكلة الزمن الميت ليست الأوبئة التي تفتك بالعقول والأبدان، بل بالكلمات المفعمة بالحب، والمتوهجة بأبجديات الحياة، مشكلة الزمن الميت في البناء، لا في الهدم.! الجامعة اليمنية اليوم، في حالات منها، لا تشكو من الفساد، أو نقص الكادر التعليمي، أو قلة القاعات.. ولا تطالب بإضافة مكتبة، أو تجهيز معمل.. أو تموين خطة.. الجامعة اليمنية الآن تشكو من “أحمد العرامي” وتطالب بفصله.! “أحمد العرامي” هذا هو المعادل البشري للجامعة في أحسن أحوالها، وكما يفترض بكادرها أن يكون، مدرساً جامعياً، يتكئ على مواهب بارعة وثقافة نوعية وتمكن نادر من مادته وخلفياتها، أبى له ضميره أن يشارك في عملية التحنيط الهائلة للعقول، والوأد الجماعي للمواهب، فأطل على طلابه من خلف ركام الاستنساخ، بكلمات ومقررات تنتمي إليهم، وإلى العصر، وبما تقتضيه رسالته، وتتيحه الجامعات عادة، فضلا عن كونه تخلى عن التعالي التقليدي، واقترب من طلابه، وأحبهم وأحبوه.. القشة التي قصمت ظهر البعير بشأنه، أنه قرر على طلابه، وهو يدرسهم مادة أدبية، روايات أدبية معاصرة، بدلا من القصص الدينية التي تنتمي بطبيعتها إلى مادة مختلفة، فقامت قيامة الجامعة ولم تقعد، إلا وقد تم عزله عن طلابه، وفصله من وظيفته(حفاظا على الشريعة الإسلامية، دفاعا عن الدين الإسلامي، دفاعا عن الذات الإلهية)!! صدر قرار الفصل الجاهلي، بقناع إسلامي، التهم الموجهة إليه(ليست شخصية بالتأكيد.. تهم المعرفة والعقل والإنسان. تتعلق بفعلي الكتابة، والقراءة، الكتابة باعتبارها أعظم اختراع بشري غيّر الوعي الإنساني، وإعادة بناءه، والقراءة باعتبارها حرية تفكير واختيار، تلك القراءة ذاتها التي طالبت جامعة البيضاء بإحالتها إلى الجحيم لثبوت الجريمة). عندما وصل الأمر إلى القضاء، ذهبت الجامعة “التنويرية” إلى (قاعة المحكمة العليا بذهنية العصور الوسطى، وبوعي بدائي وأكثر من ظلامي.. وقد تكشف خطاب الجهل المقدس فيما تضمنته مرافعاتها وهي تمجد قرار الفصل الذي اتخذته انطلاقاً من مبادئ الإسلام الحنيف _على حد تعبيرها_ وجاء قرارها الميمون، وكان ينقصها أن تصفه بأنه جهاد في سبيل الله.. أو أنه أحد أركان الإسلام..). (من بين الوثائق التي قدمتها الجامعة لتعزز بها قرارها الحكيم، وثيقة تتضمن توقيعات من طلابٍ على شهادةٍ مفادها أن الأستاذ أحمد الطرس العرامي قد قال داخل إحدى المحاضرات: (أنا علماني). وعليه: (تطالب الجامعة المحكمة الإدارية بإحالة المذكور إلى النيابة العامة لثبوت الجريمة).! وثيقة خطيرة وإدانة دامغة لا تترك للمحكمة فرصة للتردد في إصدار حكم يؤيد قرار الفصل الجامعي، وربما ينزل عقوبات أخرى على المتهم، القضاء اليمني، كما يبدو، قضاء تقليدياً مسكوناً بالوعي الفقهي لا الحقوقي، ومنخوراً بالفساد، وغير مستقل عمليا عن مراكز القوى التقليدية الرجعية في البلد .. لم يكن يفترض بالجامعة أن تعتبر “العلمانية” تهمة!، ولا بالقضاء اليمني أن يتهاون إزاء هذه التهمة الخطرة، لكن الجامعة فعلت ما لا يليق، ولم يفعل القضاء ما يتوقع منه، بالعكس، تأمل القضاء وثيقة العلمانية هذه جيدا، ورمى (كل تلك التهم التي غازلت بها الجامعة وعيه الديني، وقام يتحدث عن حفظ حقوق الأفراد، ويعنف الجامعة على ما اتخذته من إجراءات لا قانونية، وعلى تخبطها وتناقضاتها في مرافعاتها وردودها، وصولاً إلى إلغاء القرار الذي رأته الجامعة (سماوياً). ودعى رئيس الجامعة لأجله في مساجد محافظة البيضاء (حدث هذا فعلا.). بدا الأمر مفعما (بمفارقة عجيبةٍ يقف على حديها القضاء والجامعة، وقد اجتمعا في قاعةٍ واحدةٍ، وقف كل منهما بإزاء الآخر كما لو كانا في حالة تبادل أدوار، “بين “العقل الفقهي (الأكثر ارتباطاً بالمقدس)، والعقل الجامعي (التحليلي الاستنباطي الاستدلالي، الدنيوي)، الجامعة “التنويرية” تدين التنوير والتجديد والمعرفة والعلم.. فيما المؤسسة القضائية اليمنية “التقليدية” تنتصر للكلمة، للفكرة، للعقل، للمعرفة، للقانون! احتفلنا مع العرامي بالمناسبة التي تستحق الاحتفال، ليس فقط لإنصافه، ولكن أكثر لوجود أمل في مؤسسة قضائية مدنية حديثة، اعتبر العرامي القرار ذي دلالة رمزيةٍ، وأضاف: (لا أدري إلى أي مدى يمكن أن يصدق قولنا: إن العقل الفقهي قد تقدم على ما يفترض أن نسميه العقل التحليلي، في هذا السياق الاجتماعي التاريخي، لكني أعرف أن كلاً منهما يجب أن يمضي قدماً باتجاه الإنسان بما هو قيمة، وحرية، وسمو، وبالتأكيد لن يكون ذلك إلا من خلال مؤسسة قضائية تصغي له، ومؤسسة جامعية تعليمية ترتقي بذهنيته، وأما الأكاديمية بما هي مؤسسة قائمة هنا والآن وهي تكاد تشكل بنية ذهينة أقرب إلى النمطية والقوالب والأطر، فأقف _شخصياً_ أمامها لأفكر كثيراً قبل أن أقرر.. هل أستمر فيها، وأواصل دراساتي العليا أم لا؟). رابط المقال على الفيس بوك