ليست أزمة سياسية , وإن كانت السياسية مظهرها ومجالها الرئيس , لأنها بالأصل وتفرعاته أزمة شاملة , فهي أزمة الوعي كما هي أزمة السلوك , وهي أزمة الهوية والانتماء كما هي أزمة الوجود والمصير وهي أزمة العامة كما هي أزمة النخب , وهي إجمالاُ , أزمة التخلف الحضاري الشامل . إنها أزمة الجغرافيا والتاريخ , وأزمة الماضي والمستقبل , وأزمة التفكك والاندماج , وأزمة التعصب والتسامح, وأزمة الوحدة والتعدد وأزمة البناء والهدم , وأزمة القطرية والقومية , إنها اجمالاً أزمة الامة العربية . وأية مقاربة تجزيئية للأزمة هي أزمة أخرى , لذلك تقتضي شمولية الأزمة شمولية متماثلة في مقاربتها تشخيصاً وتوصيفاً وتفكيكاً وتركيباً , خصوصاً من ناحية التأكيد على أنها أزمة الكل لا الجزء وأزمة الجميع لا بعضهم , فهي أزمة كل المجتمعات العربية المعاصرة , وجميع مكونات هذه المجتمعات , فهي أزمة الليبرالي واليساري والديني والقومي والقطري والحاكم والمعارض والنخبة والعامة والريفي والمدني والرجل والمرأة والسلفي والحداثي والمحافظ والتقدمي والجمهوري والملكي والرأسمالي والاشتراكي , والعلماني والأصولي , و ما تبقى من أوصاف ومسميات . والرؤية الكاملة للأزمة الشاملة , تضعنا على أرضية الواقع وحقيقة الوقائع , وتمكننا إن التزمنا منهج العلم ومنطق العقل من الوقوف على أول الطريق لمعرفة الأزمة والتعرف على تركيبتها الكلية ومقاربتها بصورة مقبولة ومعقولة وقابلة للتقدم نحو رؤية متاحات الخروج من دوامة الأزمة وإمكانات الانتقال منها الى بديل قابل للتحقق والنماء . إن هذه الرؤية إن اتجهت اليها حركة التفكير والتعبير في الواقع وعليه , ستخرجنا فوراً من دوامة المآسي التي أدمت تاريخنا المعاصر بويلات القضاء على الخصوم والتخلص من المخالف والمختلف ، تحت المعروف من شعارات القضاء على الرجعية والإستعمار والتخلص من أعداء الشعب وأعوان الامبريالية ، أو القضاء على الشيوعية والالحاد والتخلص من المذاهب المارقة والأفكار المستوردة أو القضاء على الاقطاع والرأسمالية والتخلص من التأميم والاشتراكية وغير ذلك من الشعارات التي قضت على الوجود والمصير وتخلصت من طموح الحاضر ووعود المستقبل. آن لنا أن نعترف جميعاً أننا كلنا في الأزمة الشاملة سواء وأننا جميعاً مسئولون عن بقاء هذه الأزمة واستمرارها وعن تجاوزها والخروج من دوامتها المتجددة بنا والمجددة لهلاكنا المحتوم، وإذا كان يستحيل علينا أن نتجمع كلنا جميعاً في صعيد واحد وموحد، فإن الميسور لنا واليسير علينا هو مقاربة هذه الرؤية الكلية فرادى بحيث يرى كل فرد وفريق واقعه كما هو ويبصر فيه نفسه وغيره، بلا إنكار ولا إلغاء وبغير استبعاد ولا إقصاء ، فإذا رأى خيراً لنفسه جعله لكل شعبه بلا تمييز ولا استثناء ،وإذا رأى شراً اتقاه ووقى غيره من سوئه وسيئاته. على العلماني أن يقدم حلاً للأزمة يشمل في خيره الإخواني والسلفي وعلى الديني أن يقوم الحل شاملاً معه العلماني والشيعي والنصراني، وعلى القومي أن يسع القطري وعلى الرأسمالي أن يتسع للاشتراكي والعكس بالعكس ، وليس في الأمر لغزاً ولا أحجية فكل هذه المسميات وغيرها نحن وكل هذه الأرض والحياة بها وعليها لنا وعلينا أن نكون جميعاً منها وكلنا لها وفيها . ليست الأزمة أن تتسع رؤيتنا لوجودنا كله بل هي أن تضيق بنا على جزء من هذا الوجود فتقودنا دائماً إلى التصادم والهلاك وتأسرنا في زنازن تضيق حتى حين نظن أنها لنا وحدنا بينما هي في الواقع على حقيقته التي لن نجد لها تبديلاً ولن نجد عنها تحويلاً تتسع لنا ولغيرنا وتسعنا نحن وغيرنا ، وجموع من أحياء أدنى ونبات شتى فكيف ضاقت علينا الأرض وقد رحبت وضاقت بنا الأوطان وهي متسعة أرضا وسماء وأي مكان يسعنا بعد هذا الفضاء الفسيح إذا ضاقت صدورنا عن سعته وعمت عيوننا عن رؤيته ؟؟ فأفيقوا.. رابط المقال على الفيس بوك