في مقال سابق أبرزنا البعد الظاهر في شخصية الأستاذ عبدالملك الشيباني المميزة وهو التجديد والمرح والتلقائية ومقاطعة التقليد والأسى وثقافة الغربة والضعف، في هذه المقالة سنبرز بُعداً آخر يتعلق بعاطفيته الجياشة وطهر سريرته الذي مكّنه من التفجر حباً لمجتمعه ووطنه وحركته وأمته، حباً تجاوز العديد من الحدود والكثير من القيود. وقبل ذلك سنعطى لمحة موجزة عن مراحل حياته . من التلقي إلى الترقي: تفيد النظرة الأولية لحياة الأستاذ عبدالملك الشيباني أنه مرّ بثلاث مراحل رئيسة : الأولى : مرحلة التلقي التربوي والطلب العلمي مثل كل الشخصيات العامة في بلادنا فإننا لا نملك معلومات عن طفولته ، لكنه تحدث أنه في مرحلة المراهقة ، وعندما كان يطلب العلم في المدارس النظامية كان الجو العام أقرب إلى اليسار، حيث كان المزاج القومي طاغياً وسط الشباب ولا سيما الاتجاه الناصري، وأن وجود المركز الإسلامي في قلب تعز واحتكاكه ببعض الشخصيات الإخوانية هو الذي أوجد الجسر الذي عبر فوقه من فيح القومية إلى ظلال الفكر الوسطي ، ومن ضيق الناصرية إلى سعة الحركة الإسلامية! ومثل كل المؤثرين فإنه لم يعتمد فقط على التعليم الرسمي ولا التربية الإخوانية داخل حلقات التنظيم، بل اعتمد على التعلم الذاتي، حيث كان كثير القراءة، ولا تخلو حياته من تفكر وتأمل ووقفات حساب مع الذات، ولهذا تجاوز الكثير من النظرات والرؤى التقليدية! الثانية : مرحلة التربية والتعليم في هذه المرحلة اشتغل مدرساً ثم موجهاً في التربية والتعليم ، وساهم في تأليف مناهج المعاهد العلمية بكتاب حول التأريخ لطلاب الثانوية . وتعدى ذلك إلى الانشغال بمشروع الحركة الإسلامية التربوي من خلال مئات المحاضرات في مختلف المخيمات الصيفية والرحلات والندوات وسائر المناسبات الدينية والوطنية، حيث تنقل في مختلف محافظات الجمهورية. وفي هذه المرحلة لم يؤلف سوى كتاب التأريخ ، لكنه ألّف – مع إخوانه – آلاف الطلاب في سائر المحافظات اليمنية ، ولا سيما في تعز وإب والحديدة وصنعاء ، حيث تعرف محاضراته ودروسه معظم المحافظات اليمنية إن لم تكن كلها ، وهو أشبه في هذا الأمر بالمرحوم يحيى علاو ، مع الفارق أن علاو كان يضع مشاهديه في قلب اليمن ، بينما وضع الأستاذ اليمن في قلوب مستمعيه ! ومع كثرة تلاميذه ، فإنني ومن خلال ما أعرفه أشهد لله بأن أوفى تلاميذه هو الأستاذ عبدالوهاب الميرابي الذي بقي معه إلى اليوم الأخير من حياته ، وضرب مثلاً رائعاً في تفاني الطالب في خدمة أستاذه! الثالثة : مرحلة التفرغ للجهاد الثقافي والإعلامي بدأ هذه الفترة بعد الوحدة بشغله لرئاسة تحرير صحيفة “الإصلاح” في تعز ، وكتابة بعض المقالات ، ثم صار شبه منقطع لتأليف الكتب التي ابتدأها بكتاب :”شهيد القرآن” والذي خصصه لحياة مؤسس أول زعيم للحركة الإسلامية المعاصرة في اليمن ، الأستاذ عبده محمد المخلافي. و تتابعت الكتب إلى أن وصلت إلى ستة عشر كتاباً مطبوعاً، كما سمعته يتحدث قبل وفاته بيوم، عندما أثنى عليَّ أمام بعض الحاضرين معنا في بيته بأنني جئتُ بعده وتجاوزته بتسعة وعشرين كتاباً. وفي هذه الفترة داوم على كتابة عموده الأسبوعي في صحيفة «الصحوة» وسافر محاضراً في بضع دول أجنبية ، أهمها الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين. وبالمناسبة كنت في عام 2010 تلقيتُ وإياه وكذا الأستاذ أحمد القميري من تعز دعوات لحضور ندوة في الأردن من قبل المنتدى العالمي للوسطية ، وبسبب اعتراض بعض الجهات في الأردن على شخصية الأستاذ القميري صديقه العزيز فقد رفض السفر! وفي السنوات الأخيرة أُجريت مع الأستاذ بعض المقابلات التلفزيونية والصحفية، وظهرت له عدد من الحلقات في قناة “يمن شباب” ضمن أحد برامجها..الجدير بالذكر أن هناك قدرا من التداخل النسبي بين هذه المراحل الثلاث ، ومن ذلك استمراره في القراءة والتعلم من كل أحد إذا وجد لديه الدليل والبرهان ، وقد راجعته قبل يوم من وفاته في موضوع ما فتراجع ، وهذه إحدى سمات الذين لا يكفون عن التلقي والترقي! عاطفة الحمّى الوطنية: أحب الأستاذ الشيباني بلده اليمن إلى حد أنه أصيب بما يمكن تسميته بالحُمّى الوطنية، ظهر ذلك جلياً في مقالاته، وكتبه، ومحاضراته، وحواراته، وتعليقاته، ولهذا نجد لليمن نصيباً وافراً من مؤلفاته، وفي المقدمة منها كتابا: صحابة اليمن، اليمن في الكتاب والسنة، إضافة إلى كتابي: الرجل الأمة معاذ بن جبل، معالم الإصلاح في حياة البيحاني . ومن شدة حبه لوطنه اعتقد بأن هناك مؤامرة على اليمن من بعض أشقائه، وكان أكثر ما يستفزه المعاملة الدونية التي يلقاها اليمني خارج بلاده بسبب تخلفها، وكان شديد الغيرة على كل ما هو يمني، حتى أنني عندما أهديته كتبي الأخيرة في مرض موته تأوّه وتوجّع ، وقال بما معناه : لو كنتَ مع كل هذه الكتب غير يمني لكان لك شأن كبير !! وأنا معه في هذه الغيرة عموماً وهذا الشعور، لكنني أعيد جزءاً كبيراً من مسؤولية هذه النظرة الدونية إلى اليمنيين أنفسهم ، حيث تتحكم بكثير منهم عقدة النقص التي تجعلهم يفضلون الآتي من الخارج ولو كان أقل جودة أو قيمة ، وأكثر من يعاني من تداعيات هذه العقدة المفكرون والمؤلفون ، وقد لاحظت أنا والأستاذ الشيباني هذه المعضلة في تعامل المكتبات والقراء معنا ، بل حتى الحركة الإسلامية نفسها ، وعلى سبيل المثال وزّع الإصلاح آلاف النسخ من كتاب “الردة عن الحرية” للدكتور محمد الراشد ولم يفعل شيئاً لكتابي : “الديمقراطية في أخدود العسكر” ، وكلاهما عن الانقلاب الدموي في مصر وصدرا في نفس الوقت ، مع العلم أن القيادات التي قرأت كتابي أفادت أن كتابي أعمق وأضبط وأفضل ، لكن ذلك لم يغير من الواقع شيئاً ، حيث ظل كتابي عرضة للتجاهل والنسيان ، مثل الكتب السابقة !! عشق الحركة الإسلامية إلى الثمالة يمكن وصف الأستاذ الشيباني بأنه عاشق للحركة الإسلامية المعاصرة التي خرج من رحمها «الإصلاح» في اليمن. ومن يعرف الأستاذ عن قرب سيدرك هذا الأمر من أول وهلة ، ومن لا يعرفه سيدرك ذلك من خلال سائر كتبه ، ولا سيما ذات الصلة المباشرة بالحركة. فلقد كان أول كتاب له – كما أسلفنا – عن مؤسس الحركة الإسلامية اليمنية المعاصرة ، وأرَّخ للحركة عموماً بكتابه “مسيرة الإصلاح” ، وساهم في صياغة مناهجها بكتب : “ حاضر العالم الإسلامي” ، “العصبية” ، “الجهاد المالي” ، “فن الرحلات” ، وساهم في تثقيفها بسائر كتبه ولا سيما : الظهور الإسلامي ، السيرة في ظلال القرآن ، العلم والعلماء ، الداعية والهمة العالية . وكان دائم التعبير عن امتنانه لهذه الحركة على المستويات الشخصية والعامة ، حتى أنه قال عن نفسه : لولا هذه الحركة لكنتُ الآن خبّازاً أو مباشراً في مطعم كما ديدن كثير من أبناء منطقته التي وُلد فيها ! ولم يمنعه حبه لحركته من تقييم مساراتها والمشاركة في تقويمها ونقدها ، حيث كان ينقد الجوانب الضعيفة والسلبية فيها ، ولا سيما حركة الإخوان في مصر ، وهذا هو ديدن المحب الحقيقي ، حيث يشتد حرصه على أن يرى حركته في أبهج حلة وأفضل حال . حب يملأ جوانحه لأمته برزت في شخصية الأستاذ عاطفية جياشة ورهافة رفيعة ، كانت تتدفق بمشاعر الحب والشفقة على كل شيء ، ولا شك أن الأمة الإسلامية – التي ظل يدور في فلكها – قد نالها نصيب وافر ، وكل عناوين كتبه ومقالاته ومحاضراته تبوح بهذا العشق وتشي بتلك الشفقة ، وهي لا تحتاج إلى إبراز . وكان شديد الألم على أمته من السقوط في وهدة التخلف التي تعيش فيها في هذا الزمن ، لكنه كان أشد ألماً من شعور كثير من المسلمين بعقدة النقص ومركب الدونية ، وكان من أهم اهتماماته الثقافية العمل على تحرير الأمة من هذا الشعور المدمر ، حيث سعى إلى إعادة ثقة الأمة بنفسها ، ومن هنا برز اهتمامه بالجوانب المشرقة في التاريخ الإسلامي ، حيث أبرزها في كتاباته ، مثل كتاب “الظهور الإسلامي” ، وأبرز الأشعة المضيئة في حاضر المسلمين اليوم ، حتى بدا للبعض أنه متطرف في ذلك ، حيث اشتهر عنه قوله بأن الحضارة الغربية المعاصرة قامت على أكتاف المسلمين ، ليس فيما استفادته من التاريخ الإسلامي من منجزات واكتشافات فحسب ، بل من خلال العلماء المعاصرين الذين يعيشون في هذا الزمن في أمريكا وأوروبا . الجدير بالذكر أن دور علماء المسلمين في نهضة الغرب المعاصرة ، كانت محل نقاش بيني وبينه في اليوم الأخير قبل وفاته رحمه الله ، لكنه مع كل هذا الحب لوطنه وأمته وحركته ، كان رجّاعاً إلى الحق ، إذا شعر بأن عاطفته قد بالغت ، أو تجاوز خياله الحاني بعض الحقائق ، كيف لا وهو صاحب كتاب “العصبية” ؟ ولأهمية ما اكتشفته عن الأستاذ في جلساتي معه في مرض وفاته ، فسأكتب عنها مقالة خاصة . # رئيس منتدى الفكر الإسلامي وأستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز