التحوّلات التي صنعت ثورة المعلومات والتي ترتبت عليها فرضت واقعاً متغيراً بحركة عير مسبوقة في سرعتها, وهي الحركة التي قلبت منظومة الفكر الإنساني وغيّرت الكثير من المفاهيم المتعلقة بالحياة الإنسانية ونظم تسييرها, وخاصة النظام السياسي. لم يكن انهيار النُظم الشيوعية نهاية التاريخ كما قال صمويل هنتجتون, بل كان فاتحة تحوّل في مسار تاريخي شمل النظم الرأسمالية أيضاً, حيث أصبحت تعيش أزمات طاحنة تستوجب حلاً جذرياً يعيد لليبرالية طبيعتها المُستلبة بالرأسمالية المتوحشة ويستعيد التوازن الاجتماعي المفقود بالنهب والاحتكارات. التحوّلات التي شهدها النمط الاقتصادي المهيمن لم تكن فقط تحولات تقنية, بل كانت في جوهرها تحولات قيمية, ابتدأت باستعادة دور الدولة في معالجة الاختلال الاقتصادي, وتنامت حركتها لتصل ذروتها بإسقاط هيمنة القطب الأحادي على النظام الدولي, ولن نتوقف عند سقوط المشروع الديني للسياسة والحكم في الوطن العربي بعد ثورات ما سمي بالربيع العربي. هذه التحوّلات تشكّل مرحلة تاريخية قلقة بالبحث عن إطار مرجعي يتشكّل به الفكر الإنساني بصيغة جديدة, حيث الحرية هي الحق المطلق, والعدل هو نظام التوازن الشامل لكل جوانب الحياة الإنسانية وفي المقدمة منها جانب الاقتصاد, والأمر هنا هو أن الحرية السياسية إذ تتجسد في التنوع والتعدد فإن الحرية الاقتصادية تكون على شاكلتها تنوعاً في نظم الاقتصاد وتعدداً في قطاعاته وأنماطه, بعيداً عن احتكاره في نمط أحادي فاشل ومأزوم اسمه اقتصاد السوق. ومن المحزن أن المجتمعات العربية, تسير متأخرة عن هذه التحولات القلقة في العصر, والعالم من حولها بل هي تنتكس مندثرة في التاريخ حيث تطفو على سطح حياتها اليومية اتجاهات تمزيقية تتهدّد وجودها ومصيرها باسم الدين وتشظياته, الطائفية والمذهبية , وتتناسى أن العالم يتحرك بإنسانيته من حولها نحو تقدم مطرد وتجدّد متسارع في الأفكار والنظم كما في العمل والآليات. غير أن الظرف التاريخي الذي يتشكل به التخلف الحضاري في المجتمعات العربية ينفتح على إمكانيات الانتقال السلس إلى جديد التحولات المحورية وأطرها المرجعية, حيث يتيح غياب التوحش الرأسمالي عن هذه المجتمعات فرصة للتقدم بها إلى التعددية الشاملة والمتوازنة في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد فهذا التعدّد وحده يجسد إنسانيتنا الواحدة وجوداً ومصيراً. [email protected]