سمعنا في الآونة الأخيرة عن رحيل كثير من الشخصيات المتميزة والمؤثرة في البلد، إنها قامات قانونية وعلمية، منها الدكتور أحمد شرف الدين والدكتور عبد الكريم جدبان، والأستاذ عبد الجليل نعمان، والطبيبة سمية الثلايا، وغيرهم وغيرهم كثير، رحمة الله عليهم أجمعين، تألمنا عليهم جميعاً، وظن البعض جهلاً أنها مجرد أسماء ومجرد شخصيات رحلت كما رحل غيرها كثير، ولكن عندما نمعن النظر سنتألم أكثر وأكثر، إذ سنجد أنها عقول أبناء اليمن التي تطلَّب بناؤها وصقلها سنوات طويلة، فرحيل العلماء والمفكرين والطاقات البشرية المؤثرة جرحٌ غائر في جسد هذه الأمة، فكم خسر اليمن من خيرة أبنائه؟!، إذ لا يعلم هؤلاء أن تكوين العقول ليس بالأمر الهين بل يتطلب زمناً طويلاً، وجهداً عظيماً، وعلماً متميزاً، وقد رحل عنا قبل أيام الأستاذ القدير والشخصية المتميزة عبد الرحمن سيف إسماعيل، الرجل، الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسانية من معانٍ، و المناضل الذي بذل في سبيل نضاله أغلى ما يملك، نعم لقد أعطى عبد الرحمن اليمن أغلى ما يملك، العمر والجهد والعلم والصحة والقلب الكبير الذي حمل هموم وطنه ومآسيه حتى أنهكه التعب، فصمت إلى الأبد، وقد شاءت لي الأقدار أن أتعرّف على هذا الرجل النادر في أوج الثورة الشعبية، فكانت معرفتي به مكسباً من مكاسب الثورة بالنسبة لي، وعرفت عنه أن له سجلاً طويلاً في النضال، فضّلت ترك الحديث عنه لزملائه ومعاصريه، إذ يكفي ما عرفته عنه بنفسي في أيام الثورة، إذ لم تفته مسيرة أو مظاهرة، كان يعج شباباً أكثر من الشباب أنفسهم، فقد كان الأمين العام للتحالف الوطني الذي انضوت تحته الكثير من التكتلات الثورية، لم أسمعه مرة يقدح في أحد أو ينتقص من قدر أحد، حزباً كان أو شخصية، فقد كان مفعماً بالمبادئ والقيم، يقابل الجميع بابتسامة بشوشة تخفي آلامه الشديدة وقلبه يتسع للجميع، كما أنه الرجل الذي فاض قلمه بكل جميل في حق اليمن، فترك أبحاثاً مهمة عن اليمن وتاريخه وفن العمارة فيه، وقد صدر له عن الهيئة العامة للكتاب بعض المؤلفات منها: «اليمن شواهد ومعطيات»، و «الأبعاد الجمالية والفنية للعمارة والأغنية الشعبية»، وترك أيضاً الكثير من المقالات الصحفية في عموده في صحيفة الثوري أوضح فيها رؤيته السياسية إزاء بعض القضايا الوطنية والسياسية، ووضع الكثير من الحلول السياسية لما عشناه ونعيشه من انسداد في الأفق السياسي، ومازالت هناك أعمال كثيرة من تأليفه بحاجة إلى الطبع والنشر. هذا الرجل المعطاء وهذه الطاقة البشرية العظيمة التي تعطي بحب وإخلاص لم تجد من يقدّرها ويعرف لها حقها ويضعها في المكان الذي تستحق، أذكر يوماً أنه قال لي: « إن غداً يوم إجازة، فقلت له: أحسن ارتاح يا أستاذ، فقال لي: أكره يوم عندي يوم الإجازة»، لقد كان طاقة بشرية عظيمة قلّما نجد مثلها، وعاش ولم يعرف عنه الكثير من هو؟ وماذا قدّم لليمن؟، ومثله عظماء كثر من أبناء اليمن الذين يرحلون ولا نعرف عنهم شيئاً، إذ أننا نعيش في وطن يتنكر لأبنائه الشرفاء الذين أحبوه وضحوا في سبيل رفعته وعزته، إنه وطن لأصحاب الوجوه الصفراء، والذين لهم في كل يوم وجه، أصحاب الكلمات المزيفة، المنمقة، فعبد الرحمن سيف رغم عطائه وتفانيه في العمل لم يرق إلى مرتبة وزير أو حتى وكيل وزارة، تقديراً لعمله، ولم يعش في فلة فاخرة ولم يركب سيارة وقد كان أهلاً لذلك، ولكن يوم أن صرخ قلبه الكبير صرخته الأخيرة كان حقاً على هذا الوطن أن يهب لنجدته بكل الوسائل، وأن يسافر به إلى أفضل البلدان علاجاً، وأن يجازيه بالإحسان إحساناً، ولكنه تُرك ليموت بصمت كما هي عادة العظماء، ولربما نطق قلبه بمثل ما نطق به لسان الزبيري العظيم: بحثت عن هبةٍ أحبوك يا وطني فلم أجد لك إلا قلبي الدامي أعلم أنني قد غبنت الأستاذ عبد الرحمن حقه في هذا المقال؛ إذ ما خفي عن حياته كثير، ولكن عزائي أنني ذكَّرت القارئ الكريم به ليبحث بنفسه عن هذا العَلَم، ونسأل الله أن يجازيه على إخلاصه وتفانيه لهذا الوطن وهو الذي لا يضيع عمل عامل، وفي الأخير لا نقول إلا: لله ما أعطى ولله ما أخذ، و إنا لله و إنا إليه راجعون.