السؤال: هل يمكن أن يتحوّل التسامح إلى ثقافة شعبية غالبة ينعكس على شكل قوانين اجتماعية صارمة تحمي حقوق الناس وتؤمّنهم في حرياتهم وحقوقهم مهما كان التباين والاختلاف..؟!. عرف التاريخ البشري صوراً وحشية سببها غياب التسامح الديني والسياسي والعرقي، وأزهقت أرواح ملايين البشر بسبب نزعة الكراهية والانتقام التي أزهقت أرواح شعوب كاملة في مذابح السفّاحين من الملوك والحكام والنازيين ومحاكم التفتيش التي ذبحت الملايين بدم بارد بفعل غياب التسامح الديني والعرقي والسياسي. لقد بزغ التسامح في أبهى صوره ببزوغ رسول الحرية محمد بن عبدالله صلّى الله عليه وسلّم وهو يضع وثيقة المدينة التي تضع أسساً للتعايش مع المخالفين في الدين من اليهود كمواطنين تحمي شعائرهم الدينية وحقوقهم الدنيوية. فالتسامح هو قاعدة القبول بالإنسان والتعايش والاعتراف بحرية الاختيار والدين؛ حتى المنافقين في دولة المدينة كانوا يحظون بحقوقهم؛ مع أنهم يطعنون المجتمع والدولة الفتيّة في القلب. ولقد سطّر التاريخ تسامح المصطفى في أروع صوره مع أعدائه الذين آذوه وطردوه وقتلوا أصحابه، وبلغ التسامح ذروته في فتح مكة وهو يتجاوز التسامح والعفو إلى مراعاة نفسية الآخرين ومدارات الأعداء وهم في موضع ضعف وهو في قمة القوة. إن التسامح يعني رحمة الآخرين واحترام الذات وحُسن الظن بالله وبالناس. لقد أدّى غياب التسامح في الأمة الإسلامية إلى انتكاسة حضارية، وتحوّلت بكل طاقاتها الروحية والمادية إلى ضعف مخزٍ وهباء؛ لأن غياب التسامح يتبعه بالضرورة قمع الحريات وسيادة الانتقام والعنف والتخلف؛ بينما اعتمدت الأمم التي تخلّصت من التخلف «التسامح» كقيمة تحمي حق الناس المختلفين والمتفقين كأساس لتطور المجتمعات وقوتها؛ حتى إنها وصلت إلى حماية الآراء المتعصّبة وحقها في القول رغم خطورتها على المجتمع؛ باعتبار أن غياب التسامح ومصادرة حق الناس هو الخطر والداعم الحقيقي للتعصب والتطرف إلى درجة أننا نجد أن الأمريكيين ضمنوا حق القول والحرية لجماعات متعصبة كانت تنادي بإبادة الجنس الأسود؛ هذا التسامح ونشر قيمه أدّى إلى انحسار هذه الجماعات وتلاشيها في المجتمع بقوة التسامح وضمان حريات الآخرين. اليوم يُقتل الناس في الوطن العربي وتُصادر حرياتهم بمجرد الاختلاف في الرأي، وبدافع إزاحة الجماعات المعارضة، وتتعرض ثورات الشعوب إلى ما يشبه «إبادة عرقية» وهو أمر ينشر الخراب في الدولة والمجتمع. قبل يومين تحدّث المفكر التونسي راشد الغنوشي بكلام رآه البعض جديداً عن التسامح والحريات؛ مع أنه من صميم الإسلام الذي جاء بالأساس لاحترام العقل وضمان حريات الناس، ومع هذا تتعرّض ثورة تونس مثل غيرها لمؤامرات انتقامية مهما بدت متسامحة ومدنية؛ لأن البعض في الأساس يخاف من انتشار قوة التسامح بين الشعوب العربية وقيم الحرية، وهذا البعض لا يريد للعرب أن يخرجوا من دائرة التخلف إلى دائرة التقدم الإنساني الذي لا معنى له دون ضمان الحريات وترسيخ قيم التسامح، ويعمل هؤلاء بكل قوة لمنع الشعوب العربية من الخروج من دائرة الانتقام وضعفه إلى دائرة التسامح وقوته. التسامح لا يعني التعايش مع الأخطاء أو السكوت عن الباطل، التسامح قوة متدفقة ومبدعة؛ تحارب الباطل وتتحرّر من الكراهية وتخاصم الضعف والانتقام. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك