يقول المفكر الفرنسي «فولتير»: « كلنا ضعفاء وميالون لقانون الطبيعة، والمبدأ الأول للطبيعة هو التنوع، وهذا يؤسس للتنوع في مجال الحياة الإنسانية، وقبول هذا التنوع حق أساسي للوجود»، ويضيف في واحدة من أشهر العبارات التي أعلت - باتفاق العديد من الباحثين- من شأن الحرية والتسامح والقبول بالآخر على أساس مبدأ الاختلاف: «إنني لا أوافق على ما تقول، ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله». إمعان النظر في الواقع المشاهد اليوم في العديد من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وإلى مسلسل المشاهد الدامية من الصراع والقتال المتجدد بين القوى السياسية المتنافسة على امتداد تلك المجتمعات، يدفعنا إلى إعادة القول بأننا صرنا في حاجة وبصورةٍ ملحة إلى اعتناق فضيلة التسامح، وإلى التزامها في كل ممارساتنا وخطاباتنا، بل ربما كنا في حاجة إلى التربية على تلك الفضائل والقيم والعمل على تمثلها في حياتنا وفي سلوكياتنا اليومية لنصل إلى الغاية المرتجاة أي تبادل الاحترام مع الآخرين. ويشير العديد من الباحثين المهتمين بقضايا التسامح وموضوعاته المتجددة، إلى أن تطبيق الشعار الذي يقوم عليه مبدأ التسامح - والذي سبقت الإشارة إليه في تناولة سابقة - والمتمثل في « لتعش ولتدع غيرك يعيش» أفرز في الماضي، كما يمكن أن يفرز في الواقع المعاش في مجتمعاتنا اليوم عدة تطبيقاتٍ، تتغلغل في كل جوانب الحياة، ونظراً لصعوبة الحديث عن مختلف المظاهر والأبعاد المتعلقة بالتسامح سنذكر أهمها فيما يلي: 1- التسامح الديني: وهو وليد حركة الإصلاح الديني التي عرفتها بعض المجتمعات الأوروبية خلال القرن السادس عشر، وبخاصة خلال الحروب الدينية التي نجمت عن حركة الإصلاح الديني، والتي أدت إلى حدوث انشقاق داخل الدين الواحد بين كاثوليك وبروتستانت، ولم تتمكن المجتمعات الأوروبية من تجاوزه إلا عن طريق الاعتراف بالحق في الاختلاف في الاعتقاد الديني، ثم في حرية التفكير بشكلٍ عام. ويمكن تطبيق هذا المفهوم في عصرنا الحاضر سواءً في إطار العلاقات بين المذاهب والفرق الدينية المتعددة داخل الدولة نفسها «سنية، وشيعية، .. وغيرها»، أم بين الأديان المختلفة « السماوية منها: إسلام، مسيحية، يهودية، وغيرها»، أم بين الحضارات الإنسانية المتعددة بعيداً عن فكرة «اصطدام الحضارات وصراعها»؛ إذ يعتبر حلاً ممكناً للصراع الناشئ بين تلك المذاهب والأديان والحضارات. وقد انتشر مفهوم التسامح منذ القرن التاسع عشر وتوسع ليشمل العديد من المجالات الأخرى. 2- التسامح الفكري والثقافي: ففي مرحلة تالية تطور مفهوم التسامح، وتجاوز حدود التسامح الديني الذي كانت أساس ظهوره، وبدأ يقترن - وبشكلٍ تدريجي - بحرية التفكير والتعددية الثقافية. وغني عن القول الإشارة إلى أن مجتمعاتنا وشعوبنا في أشد ما تكون حاجة إلى تطبيق هذا البعد من أبعاد التسامح، ونعتقد أنه يمكن تطبيق هذا الجانب في إطار العلاقات بين مكونات الثقافة المختلفة داخل المجتمع، والاعتراف بحق الجميع في حرية الفكر والتعبير عن تلك الاختلافات بشتى الوسائل المشروعة، ومن باب الاعتراف بأن الاختلاف الفكري والثقافي مصدر غنى وتنوع، وأن تراث البلد وفلكلوره الشعبي سيكون عبارة عن خزان من التنويعات الثقافية واللغوية ذات الأصول المتعددة، وهذا البعد من أبعاد التسامح يمكن أن يكون مدخلاً لحل العديد من المشاكل التي تعاني منها العديد من مجتمعاتنا العربية بسبب تعدد الثقافات المكونة لتلك المجتمعات كما هو الحال في العراق، ولبنان، ومصر، والسودان، والجزائر، والمغرب. 3- التسامح العرقي: ويختص بالتسامح بين مختلف مكونات المجتمع المنحدرة من أجناس بشرية وأعراق مختلفة، وهذا النوع يطرح في بعض المجتمعات غير المتجانسة، والمكونة من عدة أعراق بشرية متباينة، وقد لاحظنا خلال الفترة الماضية أن أكثر ضحايا الصراعات السياسية التي عرفتها العديد من المجتمعات العربية، وغيرها هم من المدنيين العزل الذين لم يكن لهم من ذنبٍ إلا انتماؤهم لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع السياسي ولأسبابٍ عرقية، وكم سمعنا عن القتل بالهوية أو التصفية العرقية لآلاف المدنيين، وإبادة قرى بأكملها، وكأن الهدف هو التنقية العرقية، من أجل الحفاظ على هوية العشيرة، أو العنصر، ولذا فالتسامح هو النقيض الفعلي للعنصرية والعرقية والعدوان بجميع أشكاله وتفرعاته. 4- التسامح في إطار النوع: أو التسامح مع الآخر في إطار العلاقات بين النوع «ذكر- أنثى». فالتعصب ضد المرأة Anti- Women Prejudice أو التعصب لجنسٍ دون الآخر، يعد صورة أخرى من صور التعصب الأكثر انتشاراً في مجتمعاتنا اليوم؛ فقد ظلت نظرة الرجل إلى المرأة تتسم على الدوام بالدونية والانتقاص من مكانتها، وقد أخذت هذه النظرة مصدراً لانتقاص دورها في مجتمعاتنا، وحرمانها من أداء دورها وتقلد الوظائف العامة بمبرراتٍ دينية وثقافية واجتماعية وتربوية مختلفة، وهو الأمر الذي لم يكن بالإمكان السكوت عنه أو تجاوزه في وقتنا الحاضر، بل لقد ثارت عدة منظمات نسائية وحقوقية عالمية ومحلية للمطالبة بإنصاف المرأة، ومنحها الفرصة لإثبات جدارتها واستحقاقها، وقد جرى التعبير عنها بمصطلح «تمكين للمرأة من تقلد الوظائف وممارسة العمل السياسي» في إطار ما اصطلح عليه بنظام «الكوتا أو الحصة Quota» كقاعدة لعملٍ مرحلي تتبعه عدة مراحل بمجرد تمكن المرأة من إثبات وجودها وجدارتها في تقلد المناصب السياسية والعامة في المجتمع، وبعد أن يكون المجتمع قد تقبل فكرة مشاركة المرأة وخروجها للعمل جنباً إلى جنب مع الرجل. 5- التسامح السياسي: أي التسامح بين الأحزاب السياسية، ومختلف مكونات النظام السياسي. وبغض النظر عن المرجعيات الفسلفية أو الأسس الفكرية التي يقوم عليها كل طرفٍ من تلك الأطراف. وإذاً قد يكون من الطبيعي اليوم إعادة القول: بأن «الاختلاف» في وجهات النظر، وعلى مختلف المستويات الفكرية في المجتمع الواحد هي مسألة طبيعية، وأنه ليس من الضروري أن تتفق جميع مكونات المجتمع على برنامجٍ واحد، أو وجهة نظر موحدة لكل القضايا، لأن المجتمع الذي يعرف مثل هذا الاتفاق يعتبر مجتمعاً ساكناً أو جامداً. والاختلاف قد يكون مصدراً للخير وللثراء والتنوع داخل المجتمع إن كان القصد منه إظهار سلبيات التجربة السياسية ومثالبها بقصد الإصلاح لكل ما اعتور تلك التجربة من نقائص، وهو شر محض إن أدى إلى الفرقة، وتمزيق الصف، وخلخلة الأوضاع في البلد، وزيادة البون والاحتقان السياسي بين الأطراف السياسية المتنافسة. وتأسيساً على ذلك فلا وجود لأية مشكلة في الاعتراف بمبدأ الاختلاف أو تعدد الآراء، بل إن التعددية السياسية تقوم على أساس الاختلاف في الرأي حول القضايا والموضوعات السياسية، والواقع اليوم أن كل طرف من الأطراف السياسية في مجتمعاتنا يعتقد أنه يمتلك الحقيقة كاملة. وهذا الأمر مدعاة للقلق من أن تنعدم لغة الحوار وتسود ثقافة العنف بين مكونات مجتمعنا. وربما نجدها فرصة لدعوة كافة مكونات المجتمع اليمني إلى انتهاج سياسة الحوار، والتسامح وترك مساحة كافية للخلاف والاختلاف، بشرط أن تكون من النوع الذي لا يفسد - كما يقال - للود قضية. لكن، هل يكفي التسامح وحده لإحلال السلام داخل مجتمعاتنا، ولتجنيبها مظاهر العنف والإرهاب المختلفة؟ لقد أشرنا في تناولة سابقة إلى أن السلوك المكرس في مجرى الاقتصار على التسامح مع الآخرين قد يؤدي بنا إلى عدم معرفة الآخرين وقيمهم، فكما يقال: «إن مذهب التسامح إنما يدفعنا إلى خلق أسوار حول أنفسنا وحول الآخرين، هذه الأسوار غالباً ما تجعل الناس الذين نتسامح معهم يبدون أكثر غرابة وانعزالاً بمرور الوقت»، ولذا يعتقد العديد من الباحثين أن التسامح ليس إلا قنطرة مرور باتجاه مفهوم آخر أكثر أهمية هو «الاحترام المتبادل Mutual Respect »، وغالباً ما تشير الأدبيات إلى المصطلحين متصلين هكذا «التسامح، والاحترام المتبادل». وقد تتمثل المشكلة في أن السلوك المكرس من لدن الأفراد في المجتمع لترسيخ مبدأ التسامح مع الآخرين، قد يؤدي إلى عدم معرفة قيم الآخرين ممن نتسامح معهم، وهذه العلاقة تتضمن إمكانية لإرساء علاقات هدامة بين الجماعة المتسامحة، والجماعة المتسامح معها، وذلك عندما تجد هذه الأخيرة نفسها في مكانة أقل مقارنة بالجماعة المتسامحة التي تسيطر على المجتمع. وسيكون لنا عودة جديدة للموضوع إن شاء الله في مناسبة قادمة. - أستاذ العلوم السياسية - جامعة إب