اعتماداً على التراث المتراكم من أدبيات التنمية السياسية, التي تناولت إشكاليات بناء الدولة الحديثة, تبدو كثير من الإشكاليات والأزمات التي تقع في بعض محافظات اليمن نتاجاً طبيعياً, وإفرازاً متوقعاً لمرحلة التشكل وإعادة البناء, إذ يفترض أن تمر بها كافة المجتمعات أثناء المراحل الانتقالية, حتى إن لم تكن مقبولة من نواحٍ عديدة. بيد إن الإشكال يكمن في أن الأزمات تأتي في مجتمعاتنا متزامنة ومتلاحقة, بصورة تجعل من العصي على الدولة بمفردها مواجهتها وإدارتها دفعة واحدة, في غياب دور فاعل لمؤسسات المجتمع المدني, ومؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تلعب دوراً محورياً في تربية النشء على ثقافة التسامح, وحب الوطن, والولاء, والمواطنة الصالحة. وهذا قد يدفعنا إلى مناقشة أسباب غياب ثقافة التسامح في كثير من دول المجتمع العربي بشكل عام, وبصورة خاصة المجتمع اليمني في المرحلة الراهنة, وتداعياتها على الوحدة الوطنية, ومحاولة تحديد كافة الأسباب التي قادت إلى تفشي وإحياء ثقافات التعصب, والكراهية, والقبلية, والطائفية, والمناطقية, وهي الثقافات المناهضة لمشروع الدولة الوطنية, والتي لم تتمكن دولة الوحدة- لعوامل متعددة- من إلغائها عبر خلق ثقافة وطنية بديلة لها. لقد أشرنا في تناولات كثيرة إلى فضيلة التسامح السياسي, وأهمية الحوار السياسي بين أطراف المنظومة السياسية, وضرورة اعتراف مجتمعاتنا بأهمية خلق مساحة من التسامح لتجنّب مظاهر العنف, والتعصب, والصراع السياسي التي باتت تجتاح عدداً كبيراً من المجتمعات البشرية بوتيرة متزايدة. ونوهنا إلى ضرورة الاعتراف بالتنوع والاختلاف في وجهات النظر وأساليب التفكير بين أبناء المجتمع الواحد باعتباره أمراً واقعاً, ودليلاً على حيوية وغنى مجتمعاتنا, ولكونه السبيل الأكثر أمناً لتحقيق«التعايش السياسي” بين مختلف الفرقاء السياسيين في المجتمع. وانتهينا إلى القول: تتعدد الأسباب التي تدفع بعض الأفراد أو الجماعات في مجتمعاتنا إلى الصراع السياسي والتناحر, وقد عزونا ذلك إلى غياب الإيمان بفضيلة التسامح. ويوماً بعد يوم تزايدت قناعتنا رسوخاً بأن مجتمعاتنا باتت في أمس الحاجة إلى إشاعة القيم والفضائل والأخلاقيات المتعلقة بالتسامح, والاحترام المتبادل لتعزيز الممارسات الديمقراطية والاستقرار السياسي, ونفترض أن هذه المسألة ليست من اختصاص الدولة وسلطاتها المختلفة, ومؤسساته التربوية والتعليمية وحدها, بل إن على مؤسسات المجتمع المدني ان تضطلع بدور ايجابي في إطار أداء مهامها في التنشئة السياسية وتربية المواطن على المواطنة الحق. والملاحظ أن عدداً من الجماعات والقوى السياسية في مجتمعاتنا تقوم بمعكوس هذا الدور؛ حيث يمكن للمتابع لخطابها السياسي أو ممارساتها الحزبية ملاحظة أنها تقوم بدور تحريضي يساهم في تفشي ثقافة العنف وتوجيهها نحو الجماعات الأخرى، والتشجيع على عدم التسامح بين أبناء المجتمع اليمني، وتعزيز قيم اللامبالاة والتعصب، وهو الأمر الذي قد يطرح أكثر من علامة استفهام عن سر هذا التفرد في المواقف، وعن المكاسب التي تجنيها تلك القوى السياسية من إثارة الأحقاد والفتن بين أبناء الوطن الواحد. وللتذكير, فالتسامح (TOIerance) كما جاء في قاموس (لاروس) الفرنسي، يعني (احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآراءه السياسية والدينية) وجاء في قاموس (العلوم الاجتماعية) أن مفهوم التسامح يعني (قبول آراء الآخرين وسلوكهم على مبدأ الاختلاف؛ وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والقهر والعنف ويعد هذا المفهوم أحد أهم سمات المجتمع الديمقراطي). ويذهب بعض الباحثين إلى أن التسامح يعبر عن صيغة احترام مشاعر ومعتقدات الآخرين، أو معاملة الآخرين كبشر بصرف النظر عن ألوانهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية والمذهبية أو خلفياتهم الاجتماعية وعكس التسامح هو التعصب intolerance أما عدم التسامح فهو – بحسب تعبير (ادجار بيزاني) – يعني: رفض الاعتراف بوجود أولئك الذين لا يشاركوننا معتقداتنا وهو يمثل الرغبة في السيطرة الكاملة سواء بهدف المحافظة على هوية العشيرة أم نقاء العنصر أم من أجل السيطرة الإقليمية أو انتصار مذهب سياسي. ولذا فعدم التسامح يعني رفض الاختلاف، والبحث بأيد مخضبة بالدماء عن التماثل، ورفض أي شكل من أشكال التنوع، انه رفض لتبادل الآراء لأن التبادل يبدد الكراهية، ويستبعد التعايش لأن التعايش يعني قبول الاختلاف.. يتضح من الفقرات السابقة ان التسامح TOIerance يعني توفر النية والاستعداد لدى الفرد أو الجماعة لاتخاذ الموقف المتسامح مع الآخرين ويشترط بعض الباحثين لاعتبار تصرف الفرد أو الجماعة موقفاً متسامحاً أن يصدر من موقع القوة لا الضعف، فالتسامح لا يمكن أن يعد فضيلة إلا عندما يمكن للمرء ألا يكون متسامحاً، ولذا فليس في الإمكان أن نتحدث عن موقف متسامح إذا اضطر الشخص وهو مضطهد أو في موقف ضعيف أن يتحمل الآخرين، لأنه في هذه الحالة أضعف من ان يملي على الآخرين نهج سلوك التسامح تجاهه، أو يجبرهم على الاعتراف له بالحق في الوجود، ولذا فكل ما يمكن للشخص الذي يتحمل الظلم أن يحلم به هو الحصول على الحق في المعارضة، والحق في الدفاع عن نفسه في وجه الاضطهاد والتمييز اللذين قد يتعرض لهما، ويمكننا الاشارة إلى ان التسامح حين يوجد هو، بالمعنى العام موقف الناس الذين هم في مراكز القوة، بمن فيهم السياسيون الموجودون في مراكز السلطة، نحو الاطراف أو القوى السياسية الذين هم في مواقع أقل قوة، كما يمكن أن يكون موقف الاكثرية السائدة تجاه الاقلية الاجتماعية أو السياسية أو الدينية أو الثقافية. وفي الواقع فإن ضرورة تجنب العنف بجميع صوره واشكاله داخل المجتمعات وبين جميع الأطراف السياسية المتصارعة يجب أن يأتي في مقدمة اهتمامات الأطراف السياسية المختلفة سواء تلك التي في السلطة أم التي في صفوف المعارضة، ومن أ جل تحقيق هذه الغاية يفترض ان تسير جميع النقاشات السياسية والفكرية بين القوى السياسية في المجتمع الواحد بالطرق الحوارية السلمية، وفي بعض الحالات يجب السماح ببعض المظاهر السلمية من وسائل التعبير عن الرأي مثل التظاهر السملي باعتباره وسيلة للتعبير عن بعض الجماعات التي ليست لها طريقة أخرى لجعل أراءها ورغباتها معلومة للرأي العام، كما أن هناك حاجة إلى التسامح فيما يتعلق بحق التعبير عن الرأي وتوجيه النقد الموضوعي، وهذا لا يعني أبداً ضرورة التسامح حتى مع مظاهر العنف المختلفة التي تمارسها بعض القوى السياسية في مجتمعاتنا بل يجب الأخذ بيدها حتى تعرف السبيل الصحيح للتعبير عن مواقفها ومعارضتها دون أن تتسبب في تدمير مكتسبات الوطن، وتعريض وحدته وأمنه واستقراره للخطر.