التعبير عن الرأي حق من حقوق المواطن الدستورية التي كفلها الدستور اليمني لكافة مواطني الجمهورية اليمنية دون تمييز بين مواطن وآخر لأي سبب من الأسباب، وأكدتها القوانين المعمول بها في بلادنا تطبيقاً لكثير من المعاهدات الدولية التي صادقت عليها بلادنا، ويدخل ضمن تلك الحقوق حق توجيه النقد لسياسات الحكومة وممارساتها، وحق إبداء الرأي والتعبير عنه بكافة الوسائل الممكنة المشروعة والأخلاقية. والمشكلة تكمن في أن البعض في مجتمعنا اليمني يشتط ويتعسف في ممارسة الحق في التعبير عن الرأي، مدعياً أن الدستور يعطيه الحق في ممارسة تلك الحقوق بكافة الوسائل الممكنة المشروعة والأخلاقية وغيرها، وفقاً لقراءته الخاصة لمنطوق النص الدستوري، ويذهب البعض من هؤلاء في ممارسة هذا الحق إلى أقصى حد يسمح به لنفسه دون أن يضع لها ضوابط أو يحترم حتى الأساس الدستوري الذي منحه بوصفه مواطناً يمنياً - وفقاً لتلك القراءة الخاصة - مثل هذا الحق. وعلى الرغم من أن البعض من الكتاب والصحافيين يتخذون بعض المواقف التي يسهل معها معرفة حقيقة دوافعهم ومواقعهم ومواقفهم من القضايا والمطالب الاجتماعية المشروعة ومن ثوابتنا الوطنية وقيمنا، فإن أحداً لا يمكنه أن يدّعي بمفرده شرف الوطنية وحب اليمن الكبير وينزعهما عن غيره، أو يعتقد أنه أكثر ملامسة لمعاناة المواطن اليمني في كافة أرجاء اليمن الواحد من الآخرين، مهما تباينت وجهات النظر وتعددت الآراء والتوجهات، شريطة أن يحتكم الجميع لقراءة توافقية لنصوص الدستور اليمني، وتأويل مقبول لمنطوق تلك النصوص، لا أن يبقى لكل واحد منا قراءته الخاصة التي تنسجم مع رغباته الشخصية، والتي تتبدل بتبدل المواقف والمواقع والدوافع، أو يصبح لدى كل فرد منا، كما يقال “لكل حادثٍ حديث”. مناسبة هذا الحديث ما عرفه مجتمعنا اليمني في الآونة الأخيرة من تنامٍ لمظاهر العنف المادي والأيديولوجي الممارس ضد بعض مواطني الجمهورية اليمنية في بعض المحافظات، وتزايد ممارسات التعصب المناطقي المبالغ فيه لدى البعض من أبناء المجتمع اليمني لفكرة أو أفكار بعينها، مما لا يمكن السكوت عنه أو التغاضي عن آثاره السلبية القريبة والبعيدة المدى على علاقات مواطني الجمهورية اليمنية بعضهم بالبعض الآخر، وعودة الحديث عن ثنائيات «شمالي - جنوبي»، «شيعي - سني»، «وطني - عميل»، «دحباشي - ...»، وغيرها من الثنائيات التي لا هدف لها إلا خلق الفتنة في أوساط المجتمع اليمني، وتأجيج الصراعات المفتعلة بين مواطنيه، مما كنا نعتقد أن مجتمعنا اليمني قد تجاوزه صبيحة الثاني والعشرين من مايو1990م، وأننا بتنا جميعاً ننعم بمواطنة متساوية لا تميز بين مواطن في حضرموت أو في صنعاء وعدن وتعز.. وغيرها من مدن وطننا الغالية. وفي الواقع فإن أغلب تلك الثنائيات الثاوية في كثير من كتابات البعض من أبناء المجتمع اليمني لم يكن في حاجة إلى سببٍ حقيقي حتى يعاود الحنين إلى ماضٍ بائس من التشطير والظلم والاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي، في ظل تأجيج مشاعر أبناء المجتمع اليمني مبالغ فيه، وتحريض مقيت ضد أبناء الوطن اليمني الواحد يتوهم كل من يمارسه عدالة قضيته، ومنطقية بعض مطالبه ومشروعيتها، غاضاً النظر عن الأطراف التي ستنصب عليها هذه المشاعر المنحرفة، والتي لا تملك أن ترد عن نفسها الأذى والظلم، وكأن القصد هو إعادة تدوير وإحياء كافة مظاهر العنف المناطقي والعشائري والقبلي، وخلق فتنة وهوّة بين أبناء اليمن الواحد، ولا يهم التبعات التي ستترتب عن تلك الأعمال والتي تصب في خدمة أعداء الوطن والوحدة اليمنية، فالنتيجة ستكون زيادة الضغط والتبرم الشعبي والحنق ضد الوحدة اليمنية وضد النظام السياسي والحكومة وسياساتها وبرامجها التي يدّعي - صواباً أو خطأً، وعن قصد أو دونه - أصحاب هذه الرؤى المريضة أنها المسئولة عن وصول مجتمعنا اليمني إلى هذه الحالة من العجز والفقر والبطالة وتفشي كافة الأمراض الاجتماعية المختلفة. ومع سيادة هذه المظاهر المخزية من الممارسات الفردية والجماعية غير المقبولة وغير المنطقية وغير المشروعة تتزايد حاجة مجتمعنا وشعبنا اليمني اليوم إلى ترسيخ ثقافة سياسية وطنية جديدة تقوم على أساس الولاء لله أولاً وأخيراً، وتتضمن مفرداتها حب الوطن وحب الآخرين على قاعدتي التسامح والاحترام المتبادل، وتقر بواقع التنوع والاختلاف في وجهات النظر وأساليب التفكير بين أبناء المجتمع الواحد بوصفه أمراً واقعاً ودليلاً على الحيوية والغنى والتنوع، وعلى قاعدة “عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به”. والتسامح يتضمن معنى الاحترام المتبادل، إذ يعني: احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية، وهو يتعارض مع كل مظاهر التسلط والقهر والعنف. ويعد التسامح أحد أهم سمات المجتمع الديمقراطي، والتسامح يعبر عن صيغة احترام مشاعر ومعتقدات الآخرين، أو معاملة الآخرين كبشر بصرف النظر عن ألوانهم وانتماءاتهم السياسية والدينية والعرقية والمذهبية أو خلفياتهم الاجتماعية، وعكس التسامح هو التعصب. وفي المقابل، يعني عدم التسامح: رفض الاعتراف بوجود أولئك الذين لا يشاركوننا معتقداتنا، وهو يمثل الرغبة المتسلطة في السيطرة الكاملة سواء بهدف المحافظة على هوية القبيلة والعشيرة ونقاء العنصر، أم من أجل السيطرة الإقليمية أو انتصار مذهب سياسي. ولذا فعدم التسامح يعني رفض الاختلاف، والبحث بأيدٍ مخضبة بالدماء عن التماثل، ورفض أي شكل من أشكال الاستقلال والتنوع، إنه رفض تبادل الآراء، لأن التبادل يبدد الكراهية، ويستبعد التعايش لأن التعايش يقوم على أساس قبول الاختلاف. كما أن التسامح يعبر عن موقف الناس الذين هم في مراكز القوة، بمن فيهم السياسيون الموجودون في مراكز السلطة نحو الأطراف أو القوى السياسية الذين هم في مواقع أقل قوة، ويمكن أن يكون موقف الأكثرية السائدة في أي مجتمع تجاه الأقلّية الاجتماعية أو السياسية.. ولا يمكن أبداً أن نعد تصرف الفرد أو الجماعة موقفاً متسامحاً إلا إذا صدر من مركز القوة لا من موقع الضعف؛ فالتسامح لا يمكن أن يُعَدَّ فضيلة إلا عندما يمكن للمرء ألا يكون متسامحاً، ولذا فليس في الإمكان أن نتحدث عن موقف متسامح إذا اضطر الشخص وهو مضطهد أو في موقف ضعف أن يتحمل سخرية الآخرين به، لأنه في هذه الحالة أضعف من أن يملي على الآخرين نهج سلوك التسامح تجاهه، أو يجبرهم على الاعتراف له بالحق في الوجود. . ولكن يكون للشخص الذي يتحمل الظلم الحق في المعارضة، والحق في الدفاع عن نفسه في وجه الاضطهاد والتمييز اللذين قد يتعرض لهما، مع ضرورة تجنب العنف بجميع صوره وأشكاله بين جميع الأطراف السياسية المتصارعة، التي تأتي في مقدمة اهتمامات الأطراف السياسية المختلفة في السلطة والمعارضة. ومن أجل تحقيق هذه الغاية يفترض أن تسير النقاشات السياسية والفكرية بين القوى السياسية في المجتمع بطرق الحوار السلمي.. وفي بعض الحالات يمكن السماح ببعض المظاهر السلمية من وسائل التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي لأنه وسيلة التعبير عن بعض الجماعات التي ليست لها طريقة أخرى لجعل آرائها ورغباتها معلومة للرأي العام، لكنه لا يعني التسامح مع مظاهر العنف التي تمارسها بعض القوى السياسية في مجتمعنا بل يجب الأخذ بيدها حتى تعرف السبيل الصحيح للتعبير عن مواقفها ومعارضتها دون أن تتسبب في تدمير مكتسبات الوطن وفي تعريض أمنه واستقراره للخطر. (٭) أستاذ العلوم السياسية - جامعة إب