كأنها تنتصرُ على الموتِ بموتٍ آخر تُخبّئهُ تحت شجرة الياسمين .. أو كأنها تُرمّم خرائب الموت بلعبة الحياة وهواجس التذمّر من كلّ شيءٍ ما عدا الكتابة . سميّة طه ياسين .. مبدعةٌ يمنيّة تكاد أن تكون الأولى بين المبدعات الشابّات من تُجيد التمثيل الواقعيّ ببراعةٍ فائقةٍ لا يتكرّر فيلم تفاصيلها إلا عن طريق كاميرا صراحتها البسيطة حدّ الوضوح .. ولا يكاد أن يسدل ستائر الختام إلا ليأخذ المُشاهد في نوبة شجنٍ مستمرّ بشِعاب حياته .. لأنّه مسكون بلقطاته شاء أم أبى . في إصدارها الأول تحت عنوان “ امرأة ظلّ الياسمينة “ تكاد المبدعة سميّة أن تتفرّد يمنياً على الأقل في الجمع بين لغة الشعر والقصة والرواية والرياضيات والكيمياء وغيرها من النكايات الحاذقة بجسد الحياة الساذج في بوتقةٍ واحدة تقدّمها للقارئ دون أن تُشعر ذاتها أنها جرجرت القارئ بمحض رغبتهِ من زاويةٍ لأخرى .. ومن دهليزٍ لفضاء .. ومن سجنٍ لسماء .. كأنّها ربّة المكان الذي لا تملك شرعيّة البقاء فيه .. ومموسِقة الزمان الذي تستعير أناملها فيه من جذع قلبها المسكون بقهقهةٍ يابسةٍ كأحلامها .. أحلام الوطن . في الثلث الأوّل من صفحات حقيقة “ الياسمينة “ هرعتُ أنبشُ مكتبتي الصغيرة أقلّبُ إصدارات المبدعات اليمنيات علّي أجدُ فيها ما ينفي حقيقة استحواذ ( سميّة - الكاتبة) على ثالوث الإدهاش .. البساطة .. الخيال .. الواقعية .. فلم أجد فيهنّ سوى مبدعةٍ تائهة بخيالها عاطفةً وهمّاً اجتماعياً .. أو مبدعة غارقة في مباشرةٍ مملّة .. أو مبدعة تحبو في ذهن القارئ لمنتصف الطريق ويفرّ منها .. إذ لا لغة تحفّزه على إكمال مسيرته بصحبة حرفها . غير أنّ ( سميّة – الكاتبة ) أدهشتني وهي تسرد الأحداث العصيبة لمدينة صنعاء في خضمّ ما يُسمّى بالربيع العربيّ بطريقةٍ كدتُ أنسى أنني عشتُ معها ذات الأحداث وأكثر منها بذات المدينة .. لكنها تفوّقت على دهشتي إذ رسمَت خرائط الأحداث وهي تُبصرُ المدينة بعين الموت العاطفي قبل فناء الجسد .. وتربط سلسلة بناء الحياة بخرسانة الوجل .. وتُذكي حرائق اليباس اليوميّ برحيق كيدها الأنثويّ وهو يمحق الفرح بذات اللحظة التي يغرس فسيلة الانتماء في القلب الشارد . ثلاثون رسالة أودعتها ( سميّة – الكاتبة ) في ذاكرة أيامنا فصولاً متناقضة .. وألواناً مُتداخلة .. واستفزازً حقيقياً لعمق الرجل السطحيّ .. وانحناءً مُقدّساً يُجبر الرجل الشريك على الفناء بها قُرباناً للخلاص من كلّ شيءٍ .. إلا منها . كتَبَت سطور شجونها نيابةً عن الآخرين .. ومن يجرؤ أن ينفي صفة الإتهام رغم خصوصيّة انبعاثاتها الحميمة .. ودوّامة نجواها الخاطفة لمخيّلة القارئ وهو يطاردها بعيون قلبهِ في مسارات غنجها الحزين . أحزانها خاصّة وحديثها عامّ .. ومع هذا فالقارئ يشعر بخصوصيّتهِ في سطور كتابها .. ومرورها العامّ في طيّهِ للرسائل الثلاثين من عُمر الفجيعة . حروفها تتحدّث عن طفلةٍ مشاكسةٍ ساذجة .. عن أنثى شاهقة حازمة .. وعن نُضجٍ مسئول .. وحماقةٍ مُتعمَدة .. عن شيخوخة ألمٍ توَالدت شفاءً وشباباً .. عن حياةٍ أكثر من موت .. عن موتٍ يبعث على الحياة .. عن ابتسامةٍ طاعنة في الغياب .. عن غيابٍ كأغنيةٍ شاهقة فَقَدت أسباب هطولها ثانيةً في بُخار اللوعة . ثلاثون رسالة نجحت ( سميّة – الكاتبة ) في استنطاق أجوبة أعماقنا تتابعاً كشاعريّة عناوينها التي وهبَتها لحبيب سطورها واحتفَظت بعنوانَيْن مع محتواهما ونصف رسالةٍ لأمّها .. رغم أنّ حقيقة السطور تؤكّد أنّ الموت السماويّ لأمّها هو المُحرّض الحقيقيّ للبوح للموت الأرضيّ .. ولولا رائحة فقدان الأمومة في طين “ الياسمينة “ لما تسامقت شجرة الأشجان تُظلّلُ روح الكاتبة .. وبالتالي تأخذنا للركض الطوعيّ في هجير الأوجاع . لقد شعرتُ من السطر الأوّل حتى الأخير أنني وقعتُ للمرّة الثانية بمحض رغبتي في كتابة ما تُمليه عليّ الساردة حرفاً حرفاً بمئةٍ وثلاثة وعشرون صفحة .. ورعشة كيدٍ إثر خيبة حظّ .. ومبادرة طوعيّة في البحث اللامحدود عن حبيبٍ يقبع في خزينة معروفة لها .. مجهولة عن الأنوف المُندسّة في أوجاع الآخرين . بعد عامٍ ونصف من إقناع الكاتبة للقارئ بالإيمان بألمها من الرجل الهارب عن جنائنها المكتظّة بشجر النسيان .. فضلاً عن صلابة يقينهِ بسوداويّة فقدان الأم .. عادت (سميّة الكاتبة ) لتزرع فسائل إدراكها بأهميّة التجاوز عن موتٍ ظاهر بموتٍ عميق .. تاركةً القارئ في مقهى الخيبة يقهقهُ مطاردةً لأوهامهِ بالقبض على اللحظة .. الشجرة .. الطين .. السماء .. والاحتفاظ بوردة ياسمينة تؤثّث شروده المستمرّ .