في الانبهار والدهشة سنتواجه وقيمة الاستئناس الممتع بجماليات تعزوالقاهرة عبر وقائع تاريخية في الذات والآخر . لكن من أي زاوية راح ينظر زيد مطيع دماج للمكان وأشيائه هنا؟ . تدلف بك كاميرا الطفل زيد مطيع دماج إلى تعز في خمسينيات القرن الماضي ثم الى القاهرة مابين 58 و60 ، مرحلة التحولات العاصفة يمنياً وعربياً على أكثر من مستوى . انه السرد المكتوب بوعي الطفولة وعفويتها وهذا مايبرر احتشاد التفاصيل وتدافعها دون رتابة.. فيه ظلت ذات السارد تغتني ببساطة التركيب الأسلوبي واللغوي، كما بالنزعة الإنسانية التلقائية الجارفة منفتحاً على حسه الطفولي المتأجج وهو يسرده في الوقت الذي انجذبت اليه كل عجائب ومفارقات الزمن والمكان كمغناطيس . منذ عمر السابعة و حتى الخامسة عشرة عاش زيد مطيع دماج في تعز معجوناً بالأحداث الكثيرة المؤثرة على كيانه. ولقد كان انتقال السارد الى تعز محطة هامة في تشكل وعيه الأولي ، كما مكنه الانتقال إلى القاهرة من الارتباط بالعصر أكثر وأعمق .المعروف ان زيد مطيع دماج اسم سردي متدفق قدم نفسه بمنجز متراكم بالإبداع بحيث صار يشكل في المتن الأدبي اليمني ظاهرة سردية خاصة . بشكل خاص في كتابه الفذ “ الانبهار والدهشة” يستعيد زيد مطيع دماج روح المكان وناسه بكل أحاسيس السارد الكبير، لكن من دون طغيان هذا السارد الكبير على ماتحمله ذاكرة الطفل التدوينية الاسترجاعية تحديداً من تلقائية وعناصر بنائية مندغمة بتناسق الحكي الشيق الشفاف نتيجة المكون العاطفي من ناحية والانحياز للواقعية السردية النموذجية من ناحية أخرى . والحاصل انها كتابة منحوتة بحالة التماهي مع المكان وحقائقه المعاشة وغراباته أيضاً. كتابة بدون ادعاء ولازركشات ،كتابة الواقع الذي يتجاوز المخيلة، كتابة تلقائية مترعة بالتفاصيل المنشطرة متوغلة في العجينة الاولى للافكار والتصورات في الأمكنة والبشر . كتابة الفنان المتوتر القلق وهو في عز حالة الاسترخاء والطمأنينة . كتابة بلا افتعال تستنهض المعنى الانساني العميق جداً . كتابة نابعة من مفهوم طفل القرية اليمنية الذي لم يسمح حال تدوينه لانبهاره ودهشته بأية مفاهيم كتابية مضادة ان تكتسحه لتسلب انسجامه مع الطفل الذي كانه ويعتز به . كتابة عاطفية رهيفة تأخذ اهميتها من مكانة مؤلفها ومايمثله في المتن السردي اليمني مايجعلنا نعود لتصفح البوم اللحظة التاريخية التي شكلت ادراكاته النفسية والوجدانية الاولى . كتابة للحنين وللتداعيات الفلاشاتية منسابة بتلقائية كما تتموضع على جاذبية خاصة إذ يتداخل فيها السياسي بالتاريخي والاجتماعي بالثقافي والذاتي بالعام. كتابة مسرودة بلذة الحكي الخام . كتابة وثائقية سجلاتية إذا صح التشبيه ، كتابة بروح اللحظة وبانفعالات اللحظة كما بحيوية النقاوة التي في ذات اللحظة حين تكون عصية على التشوه كما هي بين دفتي «الانبهار والدهشة». بلغة اخرى : ياللشغف التعزي والقاهري الضليع في صيانة الذاكرة من الاندثار .. لكأننا في حضرة خطاب موجه الى التاريخ وللاجيال بهدف التمييز والفرز وتسليط الضوء على معاناة عميقة ومباهج غنية بأحاسيس ورؤى غير اعتباطية على الإطلاق . أو لكأننا امام لحظة اصطدام زيد مطيع دماج بزيد مطيع دماج من اجل انصهار زيد مطيع دماج بزيد مطيع دماج ، وهذا امتياز يحسب له مايكسب الكتاب صفة الثراء تماماً. استطراداً فقد اندلقت كل تلك الحكايات الحرة من ذاكرة الطفل الصاخب: اعجوبة المنظار السحري ، الغرام البريئ بالشابة الجميلة بائعة البطاطا ، مديح سور تعز ، وصف مدرسة الاشرفية، جامع المظفر ، المعتبية، قبة الحسينية ، قلعة القاهرة ،حال الرهينة احمد قاسم دماج ،الاشارة الى مايمثله الشبزي وتجربة الاستاذ قاسم غالب والمصورجغمان ، تمجيد التآلف التام مع دلالة صديقة الطفولة حفيظة بنت الدكتور الجيلاني وماصنعته العابها جوهر الولد القروي ، التعامل مع صندوق الطرب، معاصرة حسن بن حسن آغا صاحب الصيدلية الرائدة ، مقيل عامل تعز محمد الباشا واحتشاد الراغبين بالتغيير فيه ، خصومة الإمام للمقيل ورواده ، موتر الرصابي المهيمن على حياة العقبة ، مقهى المخاء الاليف ،ذيع صيت شراب الكوكا كولا بأنه شراب مسكر ، سر ابن محمود الغلام الذي كبر في بؤرة كنف الإمام حتى اصبح يؤثر على قراراته ،حكاية علوس المؤلمة وغرقه في البئر، لغز معاوية ولازمته الرهيبة جبل داكي على جبل، سيف الوشاح الرهيب ،مدير المدرسة الاحمدية وسجان قلعة الرهائن وهما يسوقان الطلبة والرهائن لمشاهدة إعدامات الوشاح للأحرار ومعارضي الإمام ،كيف كان وزميله عبد اللطيف الربيع يخفون اعينهم عندما ينهال سيف الوشاح على الرقاب، كيف كاد طلاب المدرسة الاحمدية يفتكون بالناظر عندما حاول أن يمنعهم من الخروج من المدرسة في المظاهرات أيام العدوان الثلاثي على مصر. حضوره لحظة إعدام الوشاح نفسه ذلك الحدث العظيم الذي لايعتقد ان التاريخ قد سجل مثله كما يؤكد، الساحر العجيب علي خالد الدجال المتواطئ مع إعدامات الامام للثوار .. طائرة الداكوتا المتجهة الى اسمرة والمربوط بابها بحبل متين ..عدم استطاعة فتح حمام الطائرة التي كانت باتجاه القاهرة ..الإصرار الطفولي على لبس الطربوش في القاهرة تماهياً مع ماكان يقرأه في كتاب القراءة الرشيدة في تعز.. شرب كافة انواع العصير في المحل الذي امام السينما .. القطار ثم العودة للحديدة، الباخرة ، الكابتن علي محسن ، هدف الثورة والجمهورية والوحدة .. الخ الخ . هكذا يتفنن زيد مطيع دماج في اطلاعنا على شخصيات ذات واقعية تفوق المخيلة، شكلت مفاتيح شخصيته الإنسانية والإبداعية، فيما يعزز لحظتها الثقافية والاجتماعية والسياسية بشواهد مكانية مفطورة على مشيئة الانبهار والدهشة . وفي الكتاب يتبدى إصراره الواعي على المباشرة في التدفق السردي بمهارة تصويرية جذابة مثخناً بالاحتدامات الجوانية الواضحة ومتخففاً حال كتابته من كل تشكلات مخزون الخبرة الموغل بتنويعاته المادية والمعنوية والثقافية والسياسية والاجتماعية. الشاهد أن تلك المشاهد الاولى التي شكلت ملامحه ، المشاهد التي علقت بالذاكرة ، فضلاً عن الشخصيات والاماكن التي اصبحت جزءاً من كينونته، لاشك . ولقد تمكن المؤلف من ان يفرض عدسته السردية النابعة ممايكمن داخله من انبهارات واندهاشات فأنتج هذا النوع من السيرة التي تختبر حركة المكان ودلالاته بوعي طفولي متألق وحميم لايخضع للتاثيرات اللاحقة. المعنى ان الانبهار والدهشة مكتوب بحرارة الدفقة الاولى، معزز بمركزية الفعل الابستمولوجي ،وكفاءة شخصية الطفل السارد ، حيث الطفولة هنا كجزء اصيل من بنية الوعي المستقبلي لاي مبدع حقيقي، كما بوصفها منبعاً مؤسساً لمنجم الحكي المدهش والمبهر الذي لايمسه النضوب . من هذا المسعى نرى ان قوة الانبهار والدهشة تكمن في كونه انطوى بجدارة على فحوى ارشيف السارد سوسولوجيا ومحتوياته كبؤرة الجذور الاولى على الصعيد المعرفي والحسي، متواشجاً وذلك الكم من الاعتزاز بالحماس للطفولية الغنية بالمفاجآت المبهجة والمحزنة جراء الكشف . والواضح في هذا المسرد كيفية تغلغل زيد مطيع دماج بسرده الحميم الذي يشعل ذاكرة الطفل ويحرسها في آن . على ان الانبهار والدهشة وثيقة مثيرة من المشاعر الطازجة ومدونة تاريخية شاهدة على تحولات وتبدلات في البناء والإعمار وثقافة الناس . في السياق يمثل الكتاب اطار التوصيف الدرامي لروح المكان ، المكان المثخن بشخصيات تعبق بالمفارقات ، المفارقات المسرودة علينا بدون اي مبالغة .فضلاً عن انه مصهر السلاسة الماهرة في وصف تفتقات الوعي ، وتدافع المشاهد والاحداث بعفوية لتجسيد لمحات لامتوقعة وأخاذة عن جزء هام من التاريخ . من المعلوم ان تجارب حياتية عديدة كان القاص والروائي زيد مطيع دماج عاشها في حياته . مواقف رائعة وغنية كللت مسيرته الابداعية الزاخرة . لنأخذ في الاعتبار مثلاً تأثير وعي مناهضة والده لسلطة الإمامة آنذاك على مجمل كتاباته لاحقاً . بينما يتجلى زيد مطيع دماج داخل انبهاره التعزي واندهاشه القاهري في مقارنة الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي بين الماضي والحاضر ، اضافة الى جلب الواقع الطبيعي كما هو واستحضار دلالالته الواقعية بقدرة فائقة على البساطة النافذة .. على انه لأمر مشجع عموماً ان يتفاعل ماتبقى من رواد الأدب اليمني ويقدموا على كتابة وتدوين مؤثراتهم الاولية على النحو الذي كتب فيه زيد كتابه الانبهار والدهشة . ثم انها محطات إنسانية لامفر منها . من هنا بالطبع تكتمل مدلولية الزمن الذي تقطر داخل روح زيد فامتصه بأنوية إبداعية متسقة مع مداركها ، أنوية السارد المجذر الذي يحتفي بمكوناته الحسية ليشرح معناه الإنساني، متمازجاً في السياق والأثر التاريخي كذلك ، مقابل انه الأمين مع ما مرت به شخصيته من تجارب ومعرفيات. غير انها أنوية زيد مطيع دماج التي لاتتعالى او تنفصل ، بقدر ماتلتحم وتزهو بمدخلاتها الطرية من منظور فني وجمالي سردي بارع ومتوهج. والثابت ان للنص أهميته من كونه يصيغ هوية ابداعات زيد السردية، كما انه خير مثال على استنهاض نزعة السرد الراهني بتركيبته الشعورية الاستعادية التلقائية غير المصابة بإسقاطات الخيال المترهل أو الحاذق أو المزوق أو حتى بهندسة السارد المتمكن أسلوبياً وتكنيكياً ، فهو بحسب المثل الشعبي المحبب الدال على أصالة الأشياء «زنجبيل بغباره» . نص خفيف، محلق ، بدون محمولات سردية كبرى أو أثقال ايديولوجية، يدفعك للوقوع في اللذة جيداً، ويحتفي بالبشر والأمكنة بوعي، ليمثل بوتقة صاهرة للوجداني في الإنساني وللقيمي في المجتمع. إنه يستدعي اندهاشات الطفل وانبهاراته الأولية بشكل ديناميكي، كما يضيء اعتمالات الحاضن البيئي وتطوراته بمزيج نوعي من نقاوة البوح . في الأخير أشير في هذه التناولة السريعة والمكثفة إلى أن الانبهار والدهشة تجربة إنسان متفرد ومبدع فارق نستعيد بها أجواء الخمسينيات بانسيابية وببساطة عارمة مفعمة بالاستدلالات المتعددة ، الاستدلالات التي تحدث الصدمة على نحو مثير وجاذب . كما أشير الى انني اجهشت ودمعت بمدارك وانعكاسات حادة حال قراءتي للكتاب ، انا الذي ضحكت فوق مستوى التصور بالمقابل وأنا اقرأ الانبهار والدهشة . وبالمحصلة ؛هنيئاً للزمن الذي عاشه الطفل زيد مطيع دماج، متوجاً بكاميرته الداخلية شديدة الحساسية والالتقاط والحيوية والإغراء ! [email protected]