سيظل قيام دولة مدنية حديثة في اليمن مرهوناً بإرادات كثيرة ومشيئات متحكّمة؛ إذا توافرت لدى أصحابها القناعة يمكن أن تكون هناك دولة يطمئن في ظلّها المواطن على حاضره ومستقبله، ودون ذلك ستظل مجرّد أمنيات، خاصة إذا استمر الحال كما هو عليه الآن من الانفلات والعنف والحروب والصراعات العبثية وانعدام الحد الأدنى للخدمات الضرورية للحياة، ومنازعة البعض للدولة في سلطاتها، ووأد حرية الرأي والصحافة، وحيث الفوضى سيدة الموقف - التي لو استمرت - سيتحوّل حال اليمن إلى ما يشبه أوضاع الصومال وربما أخطر وأكثر دموية..!!. وهو المآل الذي يتمنّاه دُعاة الفوضى والتخلُّف والتسلُّط وتُجَّار الحروب الذين يكرّسون هذا الوضع ظنّاً أنهم سيكونون في مأمن من نتائجه الوخيمة والخطيرة، بما في ذلك الأحزاب التي يبدو أنها سعيدة باستمرار هذا التدهور للوضع العام في البلاد، فإنها أول من سيجرفه سيل الفوضى العارم، وستجد نفسها في خضم الأحداث المتسارعة غير قادرة على التحكُّم في مجرياتها، وستفقد زمام القيادة والسيطرة التي اعتقدت واهمة أنها الأقدر على الإمساك به والتحكّم في اتجاهاته، وربما تتفاجأ تلك الأحزاب بتحوّلها إلى ما يشبه العصابات المسلّحة وزمر من القتلة والمهرّبين وتُجَّار الحروب والمتاجرين بالبشر، وأنها وحدها ستتحمّل عار ونتائج ما سيصيب الوطن من تشظٍّ ودمار وتمزُّق وتفكُّك بسبب استمرارها في اللهث وراء مصالحها دون مصالح الوطن والشعب، واستمرارها في المناكفات والمكايدات وإشعال الصراعات العبثية التي تهدف من ورائها إلى استكمال حلقاتها التآمرية على الوطن ليسهل عليها الاستحواذ الكامل على الكعكة كلها وإقصاء الآخرين، وهذا بلا شك نزوع أناني وخاطئ وغير مستوعب للنهايات المدمّرة التي لن يستطيع أي طرف أسهم في الوصول إليها؛ الهروب من نتائجها الكارثية..!!. يخطئ من يعتقد أنه يستطيع الوقوف أمام جهود بناء مؤسسات الدولة الفاعلة إذا توافرت القناعات والإرادات بضرورة وجود دولة، حتى وإن استطاع ذلك لفترة من الزمن، ولكنه لن يستطيع الوقوف أمام الإرادة الجمعية المتطلّعة إلى قيام الدولة؛ كونها هدفاً وضرورة وطنية ملحّة لكل اليمنيين. ومخطئ أكثر من يعتقد أن بناء الدولة أمر سهل، وأن طريقه مفروش بالورود، إذ لابدّ من ثمن باهظ ونضال دؤوب ومضنٍ لمواجهة معرقلي بناء دولة النظام والقانون، ولابدّ أيضاً من تضحيات وإجراءات حازمة وموجعة ضد أولئك الذين يحلمون بأن يجعلوا من أنفسهم بديلاً للدولة ويختزلوا النظام والقانون في ذاتهم. بالإضافة إلى أن بناء الدولة يتطلب تضافر الجهود وتسخير كل الطاقات والإمكانيات المتاحة - الرسمية والحزبية والمجتمعية - للوصول إلى هذه الغاية النبيلة؛ لأنه من المعيب أن تظل الأمور تراوح مكانها، وأن يظل الناس يعيشون في ظل حالة من الإرباك والفوضى والفلتان، وعدم وجود أي دور لدولة تفرض الأمن وتحمي مكتسبات الوطن وتحافظ على سيادته واستقلاله وتعمل على تنميته والنهوض به، وتجعل همّها الأساس هو تطبيق القوانين والأنظمة النافذة بصرامة على الجميع، وتضمن لهم المساواة في الحقوق والواجبات، والحق في إبداء آرائهم والتعبير عنها بطرق سلمية؛ والمشاركة في الحياة السياسية دون تمييز. على ألا يعني ذلك ولا يجوز لأحد أن يكون فوق الدولة أو يختزلها في شخصه، كما لا يحق لأي حزب أن يتحكّم في مسار وتوجُّهات مؤسساتها أو يكون بديلاً لها؛ لأن الشعب هو مصدر كل السلطات، والدستور يمثّل العقد الاجتماعي المنظّم لدور الدولة وواجبات وحقوق المواطنين، وينظّم العلاقة بين سلطات الدولة والمجتمع ويصون الحقوق والحريات العامة والخاصة، فهل يمكن أن تتوافر القناعة بأهمية وجود هكذا دولة قوية وفاعلة في اليمن..؟!.