أتذكّر حادثة وقعت لي وصديق حارتي، كنا ندور في محيط الحارة، مازلنا في الحادية عشرة من العمر، فجأة ظهر ولدان أكبر منا يرتديان ملابس متسخة وفوضوية، بديا لي أولاد شارع، أحدهما يرتدي قميصاً أحمر ويفرق شعراً مستوياً، ظهر من زاوية مبنى يرفع كفه ويحركه للأعلى، يغنّي بالهندية ويرقص، يردّد معه رفيقه الأكثر فوضوية، بحركات محفوظة من أحد الأفلام، تصوّرنا أنهما يغنيا كهنود حقيقيين، بالنسبة لي لم أكن أريد تجاوز حدود مشاهدتنا لهما، وتجاهلني رفيقي حين حاولت منعه من الحديث إليهما، ناداهما، قطع نشوة الغناء وتكرارهما مشهد تقتبسه ذاكرتهما من فيلم. لم ينقطع المشهد بالنسبة للولدين، بل كان استمراراً لما يفعلانه، جزءاً جوهرياً من شغفهما، وبما أن هناك أغاني كانت هناك معارك في الأفلام الهندية، يستطيع البطل بحركات وبهلوانيات خارقة هزيمة مئة بيده أو قدمه، نظر نحونا البطل بشراسة؛ “هيييي” صاح بأسلوب سينمائي، ثم هزّ رأسه بحركة انفعالية، مغص شفتيه، زمهما، واستمر يتحدث بما تصورناه لغة هندية “أهبل” قلت لصديقي متوقعاً السيئ. كان البطل يحمل حديدة نحيلة، جرى متقافزاً يريد لشعره التطاير، وما تحرّك منه فتيلة صغيرة في مقدمته، ليس هناك ريح، أو حتى مطر، وكم كان سيكون المشهد أكثر روعة، تبعه رفيقه ذو الشعر المجعد، أمسكني من الياقة، وقفت جامداً مستسلماً لما سيحدث، أتذّكر أني قلت له: “ما ليش دخل” وشد البطل الأسمر على ياقة صديقي بكل قوة، بدأ يهزه بعنفوان ونشوة، يتحدّث ما نتصوره هندية، وفي اليد الأخرى كان يحمل الحديدة. في أحد الأفلام يظهر “السلاسل” هكذا كنا نسمّي الممثل «اميتاب باتشن» وفي يده قضيبان موصولان بسلسلة أداة يستخدمها مقاتلو الكونغوفو، يحمل الأشرار ويقلبهم من فوقها ليبطحهم أرضاً، ذلك ما حدث لصديقي. كان رفيقي يستنجد: فقط أراد الحديث إليهما، دفعه الإعجاب برقصهما وغنائهما، رجاء دون فائدة، البطل في عالمه وخدره محرّكاً رأسه بتباهٍ، رفع صديقي بيد، ومازال يتحدث الهندية، شقلبه من فوق الحديدة، وبطحه أرضاً تحوّل المسكين إلى لعبة بهلوانية، وضع قدمه على ظهر المسكين، كنت كذلك مرتاعاً أن يحدث لي نفس الشيء. ظل المسكين يصيح: خلاص، خلاص، واستمر البطل يخاطبه بالهندي متوعداً، أطلق تلك الصيحة المألوفة للأبطال البوليوديين، يمط من الحروف المتحرّكة كما يرعش شفتيه، وبإشارة من أصبعه السبابة، حرك تحذيراً أخيراً، مازال رفيقي يردّد “خلاص، خلاص...” ووجهه ممرغاً بالتراب، أخيراً تركه وذهب، وارتخت القبضة التي تشدّني، لنصبح حُرّين، وبأضرار قليلة، أقل مما توقعت، على الأقل فيما يخصّني. ذهب البطل وقد ربط أسفل قميصه الأحمر على بطنه، ودون أن يلتفت إلى الوراء، يتمايل بمشيته كرقصة مألوفة، رافعاً يده اليمنى إلى أعلى، وهو يديرها محرّكاً سبّابته نحو السماء بصورة مخزلية، بينما رفيقه يدور متراقصاً حوله محرّكاً ركبتيه المثنية، ومحنياً جذعه وضارباً بالكوعين على جانبيه، وتتخذ قبضتيه المشدودة على ساعديه المائلين حركة متعاكسة. اتخذ غناءهما هاجس النهاية، كخاتمة فيلم يقفل حكايته بأغنية، ثم صارا يدوران معاً، لاحظت أن البطل لم يكن يلتفت نحونا، ربما لمحة خاطفة، الأهم أنه أنهى حسابه مع الشرير بانتصار، صديقي أيضاً لم يكن يريد النظر إليهما، كانت رغبتان مختلفتان، الأولى تريد الترفّع بزهو، وأخرى ملفعة بالحنق والمرارة. توقفت أطاردهما بعيني، وإذ سبقني صديقي توقف والتف إليّ يناديني، لكنه كذلك رفع عينيه إليهما بلمحة خاطفة، ثم تابع سيره، تذرّع بي، لحقته وأنا أتلفّّت نحوهما، كم كانا سعيدين ومنتشيين، كنا صديقي وأنا، قطيع الشياة، وربما طواحين الهواء، حيث تصوّر «دون كيشوت» فيها بطولته كواحد من الفرسان الجوالة الذي ستزدهي به أعمال الفروسية في كل العصور، واختفيا عن بصري في الشارع، غير أنهما بقيا في ذاكرتي، رغم أن المكان الذي شهد تلك البطولة، حيث تسمّرت مذعوراً، وتعرّض صديقي للبطح، طمسته البنايات، لا شيء طمس ذلك المشهد من حياتي. هذه ملامح من تعز التي عشت فيها طفولتي حتى أكملت الثانوية، أعود إليها وأستعيد بعض ذكرياتي، تعز التي تكوّمت كحفنة مبانٍ على حساب فضاءات الشجر، أشار لي أبي إلى منطقة واسعة في المجلية، حيث كانت تظهر غابة من الأشجار الطويلة، تأخذ مساحة كبيرة، لكن هوس التملك والبناء وعدم وجود يد للدولة للمحافظة على جمالية المدن، دمّر تلك المساحات التي كانت ستعطي لتعز ككثير من الهضاب التي تميّزها، جمالية خضراء، وتلك تعز الطفولة المتحمّسة في متابعة الأفلام الهندية. أتذكّر أول فيلم هندي شاهدته ل«أميتاب باتشن» “السلاسل” وصار المفضّل إليَّ بينما كان رفيقي يحب دار مندرة أو “شاكى” ومثان وكنا نسمّيه “الديسكو” كانت هناك كثير من التسميات الشعبية للفنانين “الفراشة”، “فرض”، “شرارة” “جبار” ولحقنا قليلاً ما تبقّى من السينما، كانت مازالت سينما المنتزه تسمح بدخول عائلات طيلة الثمانينيات، ثم صار كل شيء محرماً وممنوعاً..!! [email protected]