حملت عملية ذبح الجنود في حوطة حضرموت مساء الجمعة «8 أغسطس» الكثير من الرسائل التي تقول بوضوح ماذا ينتظر البلاد في مستقبل أيامها، فالصراع المسلّح الذي تشهده في شمالها والجنوب لم يعد صراعاً مسيطراً عليه، تتبارى فيه جماعات العنف من أجل تحقيق مكاسب من نوع ما لتحسين شروط تفاوضها مع خصومها، أو في لحظة أخرى خلق مساحات على الأرض لتسويق ما تظنّه النموذج الجاذب والبديل لشكل الإدارة الذي لم يعد مقبولاً عند العامة..!!. «أنصار الشريعة» أرادوا إنتاج إماراتهم في أكثر من منطقة من مناطق أبين وشبوة وحضرموت بين عامي 2010م و2014م برعاية غير خافية من متنفّذي المركز، بل مارسوا إدارة بعض هذه المناطق بواسطة محاكم شرعية ومراكز أمنية قبل أن تخوض تشكيلات عسكرية ولجان شعبية «من أبناء المناطق المنكوبة» معارك شرسة لإخراجهم من تلك المناطق. وفي المقابل بعد أن خضعت محافظة صعدة للحوثيين في العام 2011م «بعد حروب المظلومية الست» بدأت نزعة التمدّد تتملّك الجماعة التي رأت في غياب الدولة حينذاك واستعداد المجتمعات المحلية في معظم مناطق الشمال لاحتضان عناصرها المسلّحة مدخلاً مهماً لذلك، لهذا بدأت عملية اقتحام مناطق كثيرة ومهمّة في محافظة عمران المجاورة وصنعاء والجوف وحجة، لتصل الأمور إلى ذروتها مع إسقاط مدينة عمران واللواء 310 مدرّع في يوليو 2014م، وفي طريق زحفهم المقدّس «طهّروا» المناطق التي استولوا عليها من خصومهم السياسيين والقبليين وقبل هذا الدينيين «التي بدأت باكراً بطرد البقية الباقية من يهود آل سالم في صعدة مطلع العام 2007م؛ إذ نشرت وقتها رسالة التهديد التي قال اليهود إنهم تلقوها من أنصار الحوثي موقّعة من قائد أنصار الجماعة في منطقة آل سالم بتاريخ 10 - 1 - 2007م ، والتي جاء فيها: «إنه بعد المتابعة والمراقبة الدقيقة لهم "أي اليهود" ظهر جلياً في الأيام الأخيرة قيامهم بأعمال تخدم الصهيونية التي تسعى جاهدة إلى إفساد الناس وتجريدهم عن مبادئهم وقيمهم وأخلاقهم وبث الرذيلة, وديننا الإسلامي يأمرنا بمحاربة المفسدين ونفيهم» وبين طرد يهود آل سالم وإسقاط عمران؛ استعرض الحوثيون قوتهم الصاعدة التي استطاعت إحكام سيطرتها على منطقة دماج التي ظلّت مركزاً مهمّاً من مراكز استقطاب السلفية الدينية في قلب المربع الزيدي لأكثر من ثلاثة عقود برعاية إقليمية خاصة قبل أن تُسقِط سلطة آل الأحمر ونفوذهم في قلب منطقة حاشد التي امتدت لأكثر من خمسة عقود، وتابعنا كيف اُستخدم الديناميت كمرموز تطهيري للمكان الذي كان يُنظر إليه كمكان للطغيان والجبروت «منازل الشيخ الأحمر بمناطق عدة في حاشد» تماماً كما نُظِر إلى مراكز خصومهم التعليمية ومدارسهم بوصفها أماكن تفريخ التكفيريين «مركز كتاف ومركز صرم همدان وغيرهما». في خطبته بركاب الحافلة التي كان يستقلّها الجنود المغدور بهم؛ قال جلال بلعيدي قائد المجموعة المسلّحة التي ذبحت الجنود بتلك الطريقة البشعة حسب رواية أحد الركاب إن هؤلاء الجنود «روافض وحوثيون» يسندون من نكّل بأهلنا في عمران، وجاءوا إلى حضرموت يردّدون الصرخة لمحاربة أهل السنّة..!!. البُعد الطائفي المقيت في العملية بالتأكيد لن يقف في حدود هذه اللحظة البشعة، بل مرشّح للانفلات من عقاله، والتمدُّد بشكل ستصعب السيطرة على جنونه في قادم السنوات إن لم تكن هناك مبادرات مجتمعية فاعلة لإدانة جماعات العنف المسلّح، والاصطفاف ضدها مهما كانت مبرّرات خطابها؛ لأنها في الأصل ضد الحياة ومظاهرها المدنية التي تقوم على التعايش والتسامح. المشترك بين جماعة العنف الديني «بتناقضاتها الطائفية» أنها تستند على تبريرات صنعها فقهاء الطوائف الذين يرون في معارضيهم على الدوام خصوماً يوجب التخلُّص منهم، ولأنها جاءت من معضلة ما قبل العقل والسوية ستشترك هذه الجماعات في منع وتجريم مظاهر الحياة المدنية والفرح، على نحو تجريم الغناء والطرب لأنها أعمال شيطانية، وما حادثة الفنان نبيل العموش الذي منعته المليشيات الحوثية قبل أيام من الغناء في مدينته بزعم أن الغناء محرّم، كون مدينة عمران أصبحت «إسلامية» إلا نموذج ينضاف إلى قائمة المحرّمات المفروضة على صعدة والتي جاء الغناء على رأسها، بأسلوب يتطابق مع أساليب الجماعات الجهادية التي ترى في الغناء والطرب من الكبائر. فرض تعليم ديني موجّه، وعدم ترديد النشيد الوطني ورفع العلم وتحيته في المدارس، واحدة من تجليات الحضور الحوثي الصارم في محافظة صعدة، وهو ذات السلوك الذي اتبعه ما يسمّى «أنصار الشريعة» في المناطق التي تواجدوا فيها مثل المحفد وعزان ومن قبلما جعار ولودر. الخروج عن الدولة والمجتمع بوصفهما «جاهليين» أهم نزعات الجماعات الجهادية التي تحكم ممارستهم للعنف باسم الإسلام، ويجدون تبريراتها في تنظيرات المؤسّسين «أبوعلي المودودي وسيد قطب» الذين يقولون بحاكمية الله على دونها من حاكميات البشر، وهي الفكرة التي سيطرت على فكر الإمام الخميني في كتابه «الحكومة الإسلامية الصادر عام 1971» إذ يرى محمد سيد رصاص في كتابه «الاخوان المسلمون وإيران الحميني/الخامنئي» أن الخميني يقترب ويتطابق مع الاثنين في نظريتهما حول «الحاكمية لله» فعند الخميني مثل المودودي وقطب تنحصر سلطة التشريع بالله عزّ وجل، وليس لأحد أياً كان أن يشرِّع، وحكومة الإسلام حكومة القانون، والحاكم هو المشرّع لا سواه وحكم الله نافذ في جميع الناس «يُنظر مادة للكاتب نُشرت هنا تحت عنوان (الحاكمية عند المودودي وقطب والخميني بتاريخ 2 نوفمبر 2013). باختصار شديد؛ إن جماعات العنف الديني المسلّح «الأنصار» في الشمال والجنوب؛ لا تعارضات جوهرية بينها، بل إنها تتفق في عدائها للحياة والتعايش، بالرغم من التناقضات الفوقية بينها. [email protected]