غياب المشروع السياسي الوطني الجامع كان وراء ما وصلت إليه البلاد والعباد فخنق وتقزيم ذلك المشروع بضرب أدواته المعروفة سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً المتمثلة في الأحزاب الوطنية صاحبة هذا المشروع أياً كانت توجهاته الفكرية والسياسية هو ما أوصل النخب السياسية والفكرية والاقتصادية إلى حالة تخبّط وانعزال في مربعات الفعل ورد الفعل، وما يدور من حوارات ومفاوضات خارج المشروع الوطني السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بدليل أننا نقرأ كتابات ونسمع تصريحات ومواقف لا تعبّر إلا عن مشاريع مشوّشة، مجزّأة تعكس رأياً لا علاقة له بالسياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع الوطني العام وإنما يعبّر عن جماعات وتكوينات انعزالية ما قبل الدولة الوطنية والمشروع الوطني الجامع. فلم يعد لدى الأحزاب والنخب والجماعات ،مسلحة ومدنية أي مشروع تقدمه للجماهير اليمنية في عموم البلاد حتى تتكتل حوله وتبني رأياً عاماً باختلاف تواجدها الجغرافي وأنماط حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية كتلك المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة قبل أكثر من 30عاماً مثلاً والتي كانت تُعلن باسم أحزاب سياسية وتكتلات وتنظيمات ينضوي فيها مختلف أبناء اليمن ومن مختلف التكوينات الجغرافية والبيئات الحياتية لأنهم يرون أن هذا المشروع السياسي والاقتصادي و الاجتماعي أو ذاك يلبّي تطلّعاتهم واهتماماتهم ويرونه المشروع المخلص لهم - بضم الميم وتسكين الخاء - نرى اليوم أحزاباً سياسية وجماعات انعزالية جهوية تعزف على وتر المنطقة والجهة الجغرافية المحددة وتحشد أنصارها هنا أو هناك في إطار جغرافي ضيق والسبب هو استغلال وفهم مفهوم الفيدرالية بشكل انتهازي مشوّش بعيد عن المفاهيم الحديثة للفيدرالية والأقلمة وكأن الأقلمة تعني لدى هؤلاء الانعزاليين تحقيق مصالح فئة مجتمعية محددة وحيز جغرافي محدد بعيداً عن النظرة الشمولية لمجموع مكوّنات اليمن. وهناك من يسعى وبإصرار إلى تقسيم المجتمع إلى كانتونات متصارعة يتم من خلالها تجميع عناصر ونماذج سكانية تلتقي في أنماط الحياة وطرائق المعيشة والتفكير ونوعية التعبد والتدين مما ينذر بتقسيم خطير لليمنيين كانوا قد تخلّصوا منه في ظل العمل السياسي المنهجي والمشاريع السياسية الوطنية الكبرى التي كان ينقسم من خلالها اليمنيون حول أفكار وسياسات وبرامج عمل سياسية واقتصادية وثقافية وليس انقساماً فئوياً جغرافياً طائفياً ومذهبياً فكثرت حواضن المشاريع الانعزالية وهو ما نسمعه ونقرأه يومياً عبر مطالب هنا وهناك “إقليم أزال وإقليم حضرموت وإقليم سبأ وإقليم الجند.. إلخ المسميات”. والمصيبة والكارثة هي أن هناك قوى وتعبيرات وجماعات تعطي نفسها الأحقية في التعبير والسيطرة على مسمى الأقاليم كلون واحد ضاربة عرض الحائط بكل التنوّع الذي عاشه ويعيشه المجتمع اليمني والذي كان يبرز عبر تكوينات سياسية تحمل أفكار وطرائق حياة وأساليب عمل تختلف وتتفق وتتنافس في إطار العمل السياسي السلمي بعيداً عن إشراك عناصر القوة والسلاح لفرض أنماطها ومفاهيمها للحياة والتعبّد والتدين والاقتصاد والثقافة. لقد كان لدينا مشروعان سياسيان في اليمن وهما المشروع الشمالي بتنوعاته المتعددة، والمشروع الجنوبي بتنوعاته بغض النظر عن كم وفعالية التنوع، كانت تزيد أو تنقص هنا وهناك بفعل أنماط ونوعية الحكّام لكنها لم تتحول إلى تكييف جغرافي يرفض التنوع ويقمعه بل ويدعو إلى إبادته وتهجيره وتشريده كما نلاحظ اليوم. فما جرى منذ إعلان الأقلمة والتوجّه نحو تنفيذها في اليمن حدثت أشياء تكشف الفهم الخاطئ لهذا النظام “الأقلمة” وارتفعت الدعوات الانعزالية الرافضة للتنوّع في إطار كل إقليم وكأن الحيز الجغرافي لأي إقليم يخص جماعة محددة فقط فطرد يهود آل سالم والسلفيين من صعدة ومن ثم القضاء عسكرياً على التنوع السياسي والتعبدي في مناطق شمال الشمال بدأ ينذر بصناعة كانتونات وخرائط تجمع نوعية محددة من البشر متجانسين في أنماط حياتهم ونوعية تعبّدهم وتدينهم مما ينذر بتقسيم جهوي طائفي مناطقي بغيض سيفجر اليمن إلى شظايا. لقد مارس قادة عظماء في الثورات الكبرى في العالم “الاتحاد السوقيتي ويوغسلافيا” في أوائل القرن عمليات التوازن السكاني الحامل للمشروع القومي لتلك الدول رأيناه يتفكك في يوغسلافيا بويلات وجرائم نظراً لضعف المشروع القومي الجامع ورأيناه يترنح تحت ضربات المشاريع الانفصالية والانعزالية في بلدان الاتحاد السوفيتي السابق ونراه اليوم يدمر في المنطقة العربية والسبب هو غياب المشروع القومي على مستوى المنطقة والوطني الجامع على مستوى كل دولة. وكنا قد قرأنا وسمعنا بعد قيام الوحدة اليمنية عن مشاريع من هذا القبيل “التوازن السكاني” بتبادل جماعات من السكان بين المناطق الكثيفة السكان والخالية من السكان وتم وأد مثل هذا بحجج انعزالية وانفصالية مقيتة، وها نحن اليوم نرى صناعة محاضن انعزالية طائفية ومناطقية مقيتة بضرب التنوع والقضاء عليه. إن غياب المشروع الوطني الجامع وكسل النخب والأحزاب السياسية عن النضال لتحقيق المشروع الوطني الجامع والاستسلام لمفاعيل المشاريع الانعزالية الطائفية والجهوية والمناطقية الخالية من التنوع بفعل فرض الأمر الواقع بقوة السلاح والمال سيؤدي إلى إبادة المشروع اليمني والهوية اليمنية وهو ما نراه عياناً جهاراً سواء فيما يتعلق بجماعات مسلّحة تطالب بمطالب جهوية وطائفية أو مربعات جغرافية تعمل على الانسلاخ من الهوية اليمنية جهاراً نهاراً. وأخيراً: ألا يوجد قادة عظماء موحّدون يحملون مشاريع وطنية جامعة كأولئك الذين بنوا مشروعين يمنيين، «شمالي وجنوبي» لكلٍّ منهما صيغته وتوجّهه السياسي، وهذه ليست دعوة انفصالية إلى شمال وجنوب وإنما دعوة إلى مشاريع تتصارع في إطار السياسة والفكر والاقتصاد والثقافة، لا مشاريع تتصارع من أجل الحيّز الجغرافي والطائفة والمذهب. والله من وراء القصد. [email protected]