في الشعوب والدول المتقدمة يأبى الإعلاميون أن يكونوا جزءاً من حزب أو منظمة سياسية وإنما يظلون مرتبطين بالوطن والشعب ويحتفظون باستقلاليتهم ويجعلون من أنفسهم الجهاز الرقابي الأقوى الذي يتابع كل صغيرة وكبيرة في أداء الحكومات وأداء المؤسسات ويشكّلون في نفس الوقت “المرآة” التي تعكس للشعوب الإيجابيات والسلبيات ولا يتردّدون في كشف السلوك غير السوي لأي مسؤول مهما كان موقعه.. فهناك لا يوجد كما هو الحال عندنا في العالم العربي شيء اسمه عدم المس بالذات الحاكمة.. وبفضل تحرّر الإعلاميين في هذه الشعوب من القيود والسيطرة الرسمية والابتعاد عن السير في خط السلطة والأحزاب استطاعوا أن يُسقطوا رؤساء جمهوريات ورؤساء حكومات بأقلامهم الحرة المنحازة إلى قضايا الشعوب والأوطان.. وخشية من الإعلام والإعلاميين في الدول المتحضرة يُحسب لهم الف حساب. وبهذا السلوك الوطني للإعلاميين ارتقت أوضاع شعوبهم وصار القانون فيها هو السيد الذي يخضع له الكبير قبل الصغير وبنيت دول يسيّرها عمل مؤسسي يحافظ على استمراريته حتى لو شهدت البلاد فراغاً دستورياً.. وفي ظل أجواء الحرية والديمقراطية التي يعيشونها لا يستطيع أي حاكم مهما كبرت واتسعت صلاحياته الدستورية أن ينفرد بالقرار أو يتجاوز إرادة الشعب حتى في حالة تعرّض بلاده لاعتداء خارجي مفاجئ فلابد أن يستشير شعبه ليساعده في اتخاذ القرار المناسب للدفاع عن بلده ويستمع إلى نصائح الإعلاميين الذين يعتبرون أنفسهم جزءاً من منظومة تدافع عن الأوطان وتتصدى بشجاعة لكل العابثين حتى لو كانوا يحتلون أعلى المناصب في الدولة.. لكن في عالمنا العربي يسعى الإعلامي لأن يكون بوقاً لحزب أو منظمة أو للسلطة وينسى وطنه نهائياً ويسخّر كل جهده وقلمه للدفاع عن الجهة التي ينتمي إليها وينطق باسمها لينفذ أجندتها. ولو تتبعنا ما يحدث في كل الدول العربية بدون استثناء وخاصة هذه الأيام في اليمن من مشاكل وعداوات وبغضاء وحقد وكراهية بين أبناء الشعب الواحد لوجدنا أن للإعلام والإعلاميين نصيب الأسد في حدوثها لا سيما فيما يتعلّق بما نشهده من إثارة لقضايا طائفية ومذهبية وحزبية ونزاعات عنصرية وقبلية عكست نفسها سلباً على أداء السلطات في حل قضايا الأوطان وخدمتها. ومن المؤسف أن البعض يساعدون على تغذيتها إعلامياً وسياسياً لإشغال الرأي العام بها وفي نفس الوقت ضماناً لاستمرار انقسامه حتى لا تتوحد كلمته فتتجه الشعوب لمحاسبة الحكام على فسادهم والمتاجرة بأوطانهم وثرواتها.. إضافة إلى تعمدهم إضعاف التعليم بهدف تأخر وعي الشعوب المعرفي والتلاعب بالتاريخ العربي وطمس حقائقه حتى لا يطلع الجيل الجديد على ما سطّره الآباء والأجداد من سجلات ناصعة البياض حين كانوا يشكّلون القوة الأولى وحين كان أكثر من نصف العالم يخضع لسيطرتهم وحكمهم لما يزيد عن ألف عام. فجاء من بعدهم من أضاعوا كل شيء بسبب تقاتلهم على كرسي الحكم فشتتوا الأمة ومزّقوها وجعلوا منها أمة ضعيفة لا يحترمها أحد وإنما أصبح مسيطراً عليها طمعاً في ثرواتها وموقعها الجغرافي الاستراتيجي. وبما أن الإعلام الرسمي والمتحزّب وحتى من يدّعي إنه مستقل ينطق بما يُملى عليه من هذه الجهة أو تلك فقد ازدادت المشاكل في عالمنا العربي تعقيداً مع أن الإعلام والإعلاميين لو انحازوا إلى جانب قضايا أوطانهم لاستطاعوا أن يجنبوا شعوبهم هذه المشاكل ويساعدوا بشكل أو بآخر على إيجاد قواسم مشتركة قد تلقى قبولاً من قبل الشعوب والحكّام وكل القوى السياسية وصولاً إلى توافق ينتج عنه استقرار في مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية ويحل الوئام والسلام بين أبناء القطر الواحد مهما اختلفت دياناتهم ومذاهبهم وطوائفهم لأن الوطن يجمعهم جميعاً والدفاع عنه وعن قضاياه مسؤولية تكاملية فيما بينهم. ورغم أن العالم قد أصبح قرية صغيرة بفضل ما يشهده من ثورة علمية في مختلف المجالات وصارت الشعوب المتخلفة مطلعة على ما يحدث في الدول المتقدمة من تطورات إلا أن عقليتنا كعرب لم تتأثر بها أو حتى تحاول الاستفادة منها بسبب برمجتها وجعلها تابعة لما يقوله الحكام وقادة الجماعات والأحزاب لا سيما الإعلام والإعلاميين الذين يفترض فيهم أن يقودوا الشعوب ويقومون بالدور الأبرز في حركة تطورها والدفاع عن قضاياها. لكن مع الأسف الشديد إن دور الإعلام السلبي في عالمنا العربي الذي يسبّح بحمد الجهات التي ينتمي إليها سواءً كانت حاكمة أو معارضة استطاع أن يغيّب دور الشعوب ويقصيها تماماً عما يجب أن تقوم به لبناء نفسها واللحاق بركب التطور الذي يشهده عالم اليوم ويكون لها كلمتها في الدفاع عن مصالحها وقضاياها بدل أن تظل مرهونة بيد الحكام ليتاجروا بها ويجيروها خدمة لمصالحهم الذاتية مختصرين الأوطان والشعوب في أشخاصهم.. ومع أن الشعوب قد بدأت تتحرك بعد أن نفد صبرها وفقدت طاقتها لتحمل المزيد من الظلم والاستبداد واستطاعت أن تسقط أربعة أنظمة عربية مع حكامها خلال العام2011م وحركت المياه الراكدة في الدول التي لم تصلها ثورات الربيع العربي بعد، حيث أصبحت تشهد مخاضات وتفاعلات كانت ستنتهي بثورات تعبّر عن غضب الشعوب إلا أن الخوف الذي زرعه الحكّام في نفوسها من خلال سياسة القمع والاضطهاد التي تطبق عليها وعدم وقوف الإعلام إلى جانبها قد جعلها تتردّد وتهدأ نوعاً ما بسبب الالتفاف على ثورات الشباب في دول ما سمي بالربيع العربي وإفشال أهدافها التي كادت لو تحقق لها النجاح أن تجعل الشعوب رقماً صعباً في عملية معادلة الحكم وإشراكها في صنع القرار وصنع مستقبلها بما من شأنه أن يترجم إرادتها الحرة وتحقيق طموحاتها وتطلعاتها في بناء دول المؤسسات وتحديد طبيعة أنظمتها وفترة رئاستها ووضع دساتير تكفل التداول السلمي للسلطة والتعددية السياسية والحزبية والمواطنة المتساوية بحيث لا تظل السلطة محصورة في يد فئة معينة.. وهنا يُطرح السؤال نفسه بقوة وهو: هل ينحاز الإعلاميون في الدول العربية إلى جانب قضايا الشعوب والأوطان ويتخلون عن انتماءاتهم الحزبية والمذهبية بحيث يتحرّرون من التزاماتهم التنظيمية والأيديولوجية ويساعدون الشعوب على القيام بانتفاضاتها ضد الظلم والاستبداد؟! [email protected]