على الرّغم من الاستقرار الأمني النسبي في العاصمة صنعاء وبعض المحافظات؛ إلا أن الناس يعيشون فقراً مدقعاً وحالة من الترقُّب والتّوهان والإحباط بسبب حالة السكون الواضحة في العملية السياسية التي لم يتمّ التقدُّم فيها منذ التوقيع على مبادرة «السلم والشراكة» في 21 سبتمبر 2014م حتّى خطوة واحدة. لقد توقّع الناس قيام الأطراف المعنية بأعمال وخطوات إيجابية جادة يتّخذون من خلالها قرارات وطنية من شأنها تبديد المخاوف التي تسيطر على أذهان الناس وحياتهم، قرارات تبني جسوراً جديدة للثقة بين المواطن والنُخب والقوى السياسية المختلفة بعد أن وصلت إلى حالة الأطلال. وتوقّع الناس خطوات من شأنها - أيضاً - أن تُثبت مصداقية الفاعلين السياسيين وجدارتهم في قيادة البلد وجعل إرادة التغير والتحوّل في مسار العملية السياسية والشراكة في القرار والإدارة واقعاً معاشاً، وليس شعارات وخُطباًَ. لكنّ للأسف الشديد لا جديد يُذكر؛ الكل في حالة عزلة عن بعضهم البعض من جهة، وعن المجتمع ومآسيه من جهة ثانية، ليظل دائماً حديث اليمنيين عن الانتصارات والثورات وكيل التُّهم ضد بعضهم وذِكر مساوئ بعضهم هو المسيطر على المشهد، ولم يُميّز العقل السياسي والفكري بعد حقيقة أن هناك فارقاً كبيراً بين إطلاق صيحات النّصر والتغنّي به، وبين الواقع، وأن هذا شيء وذاك شيء آخر ليصرّوا دائماً، على أن يسبقوا نتائج أي أفعال بالأقوال والأحكام المسبّقة، لدرجة أن الكلام يصير وفق ثقافة الحسم المبكّر والتعاطي اللا مسؤول مع الأحداث هو النتيجة والهدف وخلاصة كل تضحية وعطاء. واقعنا مشلول، نعم مشلول..!، وانتصاراتنا هي عبارة عن توزيع مجانيّ للأوهام، ونصب للمكائد والحُفرالعميقة في دروبنا لأنفسنا، نعم، ولا شك ّأو ريب حول هذه الحقائق. طيب.. وبعيداً عن توصيف الواقع والتنظير له وحوله، نتساءل: من أين نأتي بكل هذه القدرة على السلبية وتجاهل المخاطر وتكريس الوهم والتوكُّل على القدر دون نية صادقة وحسنة وإيمان نقي واستعداد كامل للبدء ببدايات مختلفة، غير هذه البدايات التي صارت بالفعل بداية النهايات السريعة لأي مشروع وطني. انتظرَ الناسُ بشغف شديد حلحلة تداعيات أحداث 2011م وتراكمات العقود والأخطاء التي سبقتها، وبمجرد الانتهاء من مؤتمر الحوار الوطني والتوقيع على مخرجاته دخلنا في حالة استرخاء وربما ثقة مبالغ فيها في الوصول إلى الحل ووضع حد لكل مشاكلنا. وفي الحقيقة ما كان ينبغي أن يحدث ذلك الاسترخاء والثقة أبداً؛ لأن البلاد خلاله دخلت في غيبوبة جديدة ودوامة جديدة ومرثون، ربما أصعب وأطول، بمعنى أننا وفي الوقت الذي كنّا ننتظر فيه سد ثقوب المرحلة الماضية، استفقنا على ثقوب أكبر وأوسع، تمثّلت بالمتغيرات الهائلة والتحوّلات العميقة والضباب الكثيف الذي خيّم على أرضنا وسمائنا ومشهدنا السياسي المُضبّب أصلاً. وبغض النّظر عن أي تخندق هناك في الواقع من ينظر إلى ما قامت به جماعة «أنصار الله» بإيجابية وتقدير، ومبرّراتهم في ذلك هي أنهم أزاحوا مراكز فساد ونفوذ كان من الصعوبة بمكان زحزحتها قيد أنملة بأية وسيلة غير تلك التي استخدمتها «الجماعة». وهناك من ينظر إلى الأحداث التي قامت بها هذه الجماعة - أيضاً - بسلبية وأنها هدّدت الأمن الوطني وهدّدت التسوية السياسية، وأسّست لثقافة القوّة والغلبة والعنف، وفرض سياسة الأمر الواقع، لكن وأياً كانت التحليلات والتوصيفات والمواقف المتباينة مما حدث، ينبغي اليوم أن نتخلّص من كل الحسابات والأسباب التي تقود للتعقيد بدلاً من الانفراج، وليحرص الجميع.. على أن تكون النتائج ملموسة وكلها لمصلحة البلد لاسيما وقد أزيحت - كما يذهب الكثيرون من المراقبين - مراكز القوى التي كانت تقف في طريق التحوُّل والتغيُّر البنّاء، خصوصاً إذا ما علِم الجميع وسلّم بحقيقة أن كل شيء في بلادنا صار لا يتحمل المزيد، وكل شيء صار، يتراجع إلى الخلف بصورة مخيفة ومفزعة. ويكفينا الحقيقة التي تقول إن أكثر من نصف سُكّان البلاد يعيشون تحت خطّ الفقر، وأكثر من 60 % من الأيدي القادرة على العمل عاطلة، والدين العام بلغ (20) مليار دولار والعجز في الموازنة بلغ (10 %) في حين يكون عادة عند المستوى الآمن المُقدّر ب (3 %). إن الإعلان العاجل عن اسم رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة الجديدة من أصحاب الكفاءات والمشهود لهم بالنزاهة، وإفساح المجال أمامهم للعمل بجدّ وتحرُّر من مكائد وإملاءات ومصالح الأحزاب، ودون حقول ألغام من تلك المعتادة؛ أمر مهم جداً، وخطوة متقدّمة على طريق تصحيح الاختلالات ووضع حد للتكهنات وحالة اللا يقين المسيطرة على الجميع. وأمر لا يقل أهمية عن ذلك - أيضاً - وهو مواكبته بميثاق شرف إعلامي والتزام أخلاقي ووطني به، بحيث يتوقّف الجميع عن التحريض والمبالغة في الخصومة ووصف واحتكار الإنجازات والاستعراض البطولي في التشفّي من بعضنا البعض وتعطيل مؤسسات الدولة والإساءة إلى الجيش وغيره. عبارة أخيرة ليس من النخوة والفروسية والبطولة القيام بأي أعمال من شأنها تكريس الجهل والفقر والعنف والتحريض والكراهية واليأس. [email protected]