أي حرب ناشبة تعكس ظروفاً غير طبيعية أدّت إلى نشوبها تتعلّق غالباً بالجغرافيا وصراعات الإنسان، وهي تخلف ضحايا وتنتج خرائب وفقاً لسياقات نشوبها، حيثيات ما قبل اندلاع الحرب تحدّد رقمياً كلفة اندلاعها مستقبلاً. البشر لا يكترثون لهذه الحقيقة، لايزالون يخوضون حروباً تنتهي بعشرات الألوف من القتلى ويتشبثون بوهم القدرة على التحكّم في نتائجها، ثم يفيقون على كارثة الحصاد المفزع لكل شيء، تحصد الحرب كل شيء ويبقى الخراب ماثلاً لعشرات السنين؛ غير أن من يأتون مستقبلاً لا يكونون أكثر إدراكاً لهذه الحقيقة من سابقيهم، يولدون تحت كومة البؤس والخراب، وحين يكبرون تكبر معهم لذّة غامضة لمواصلة المهمّة كما لو كانوا في عملية لإعادة إحياء أرث سلوكي عظيم وماجد. في اليمن المتخم بالمعاركة الدامية والمتخلّفة لاتزال النزعة إلى الحرب في ذروة حضورها التاريخي، أحياناً تبدو الحرب كما لو أنها فكرة يمنية أصيلة، لا يتحدّث اليمنيون كثيراً فيما سوى القتال، كما أنهم يعطون القاتل صورة ماجدة غالباً، وهم لا ينظرون إليه باعتباره قاتلاً طفى على بركة من الدماء، بل بوصفه شجاعاً ومقداماً خلف على جوانب طريقه أكواماً من الجماجم ثم أقام على إثر ذلك الولائم وحفلات الانتصار الصاخبة. لدينا خرابة ممتدة على أكثر من منطقة بعد مضي ثلاثة أعوام على المبادرة الخليجية وعام على الحوار؛ وجدنا أنفسنا على أعتاب حرب ضارية؛ نفس الأطراف التي وقّعت المبادرة تصنع مشهد الحرب الآن وتنصب المتاريس، تشهد اليمن حالة مغادرة جماعية نحو الحرب تعكس الرغبة في تدارك خطأ الانتقال إلى الصراع بأدوات أكثر حداثة وأقل كلفة. يدرك اليمنيون أن الحرب لن تفضي إلى مستقبل جميل وآمن؛ غير أنهم سيخوضونها برغبة في استعادة الوهج التاريخي لمعنى الحرب في الوعي اليمني، وسيدفعون آلاف الضحايا وأضعافهم من المشرّدين في سبيل ذلك. هاجس المستقبل والحضارة لايزال في ذيل قائمة اهتمامات اليمنيين حين اندلعت ثورة فبراير قبل ثلاثة أعوام كانت تحمل رسالة إلى رأس النظام السابق، تقول الرسالة: «إن الوقت قد حان لكي يغادر اليمن مغارة الحروب والفقر والتخلّف». كان صالح رجل الحالة اليمنية المتخلّفة في آخر نسخة تاريخية لها قبل اندلاع الثورة، غضب صالح كان في أعماقه يشعر أنه في مهمّة مقدّسة لحماية اليمن من خطر الحضارة، لم يستوعب هتاف الناس للمستقبل والدولة المدنية، وأصيب بصدمة وهو يرى قبيلي العصيمات يهتف للمدنية عارياً من بندقيته جنباً إلى جنب مع أروى عثمان. جزم صالح أن ما يحدث مؤامرة لإسقاط نظامه تُدار من غرفة في «تل أبيب»، وفي أحسن الأحوال اعتقد أنه أمام عشرات الألوف من البشر قدموا من زحل لطرده من السُلطة عنوة وتسليمها إلى خصومه المزعجين..!!. قابلت الأدوات العسكرية للنظام السابق موجة الاحتجاج بالمجنزرات، وقتل الكثيرون من شباب الثورة، في خضم حالة القمع وجد رأس النظام في أوساط العوام من يتحدّث عنه كبطل، اكتشف أن المسألة لم تُحسم بعد، وأن من اختار طريق الثورة على التخلُّف هم جزء يسير من الشعب، وأن الغالبية لاتزال تؤمن بفكرة الحرب وتعتقد بخطورة الحضارة؛ أي لاتزال تنتمي بعمق وحماس شديد إلى عصر الحاكم المتخلّف. اكتفى رأس النظام بهذا الاكتشاف المذهل وغادر السُلطة متوعّداً بمعارك لا حصر لها؛ بعد ذلك بعامين اشتعلت الحروب في أكثر من جبهة، تاهت الثورة وعلق شبابها في منتصف الطريق، أما الذين التحقوا بها بُعيد اندلاعها؛ فقد قرّروا العودة إلى البندقية والمتاريس لحماية أنفسهم من غائلة الحروب المشتعلة تاركين وراءهم كل ما عرفوه عن الحضارة وجبال شاهقة من الأحلام. لا شيء أكثر من الحرب يجري تداولها الآن في أوساط اليمنيين؛ ذلك أمر يسعد صالح، فكرة الثورة من أجل الحضارة والمستقبل تشوّهت إلى حد كبير، حشد مهم من الناس يسخر الآن من الثورة ويعتبر رأس النظام السابق بطلاً، يصفونه ب«البطل» لأنه في نظرهم نسف الثورة وشرّد مكوّناتها، ووضع اليمن مجدّداً على سكة الخراب والحروب والتخلُّف. بالنسبة لصالح فإن هناك ما هو أكثر متعة من هذا، لقد تمكّن من تأديب خصومه على نحو لم يكن في حسبان أكثر المتشائمين من بقاء صالح على خشبة المسرح السياسي، أما الذين ركبوا الثورة وتركوه وحيداً للاصطلاء بنيرانها فقد عاقبهم بقسوة لا متناهية، فقد تركهم للمليشيات تلتهمهم واحداً تلو الآخر، لم تشفع لهم دعوات المصالحة ولا ذاكرة التاريخ المشترك، كان صالح قد محا كل شيء، بل استبدل ذاكرته الأولى بأخرى وضع عبرها 11 فبراير لسنة 2011م كبداية جديدة للتاريخ. وضعت السياسة أوزارها وبدأ زمن الحرب، المؤشرات تقول إن الأحداث الراهنة لن تفضي إلى عملية سياسية بل إلى مستقبل قائم على فكرة العنف والسباق إلى السيطرة. مثلاً حزب التجمع اليمني للإصلاح لم يعد منشغلاً بالعملية السياسية القائمة في صنعاء؛ بل بكيفية الحفاظ على تعز وعدن ولحج، الحوثي أيضاً لن يكترث لنجاح أو فشل اتفاق السلم والشراكة. حل الإصلاح لا يعني أنه سينتهي، كما أنه لن يشكّل قوة إضافية إلى الحوثي، بقاء المؤتمر كحزب لن يحقّق المكاسب ذاتها التي سيحصل عليها في حال تحوّله إلى ميليشيا وكذا الناصري والاشتراكي وكل الأحزاب التي تمتلك حضوراً وثقلاً في المشهد السياسي، أدوات الصراع تغيّرت، والمشهد في طور انقلاب كلي..!!. لقد ظفر اليمنيون أو أولئك الذين يسوسونهم؛ ظفروا في معركة انتزاع اليمن من فم المستقبل، وتغلّبوا على خطر الحضارة.