قلنا في المقال السابق الذي نشرته صحيفة الجمهورية يوم السبت 5 نوفمبر 2014م إننا بحاجة للعودة إلى القرية ولكن بشروط القرية وليس بشروط المدينة، لأن شروط العيش في المدن صار كثير العيوب، قليل الفائدة لسكنى المدن أنفسهم، فكيف ننقل هذه الشروط إلى القرية وقد ضقنا بها ذرعاً في المدن، نحن في المدن لا نستطيع أن نسير على أقدامنا، لأن الذين خطّطوا المدن لم يعملوا حسابنا في أن يكون لنا حق السير على الأقدام، فقد ضيّقوا علينا الطرق، فلا توجد أرصفة للمارة ولا توجد ميادين ولا ساحات للاستراحة، في المدن نحن لا نستطيع أن نتنفس هواءً نقياً، لأن عوادم السيارات والدرّاجات النارية وتراكم القمامة في كل مكان قد ضيّق علينا الحال ولم نعد قادرين على أن نجد الهواء النقي، لا داخل بيوتنا ولا خارجها. صارت الحوادث كثيرة ومتعدّدة والحظر يتربّص بنا إما محمولاً فوق دراجة نارية بسبب رعونة شاب يسوقها فيودي بحياته أو حياة غيره أو بسبب قاتل يحمله صاحب الدراجة خلفه ليحصد الأرواح ويولّي هارباً.. فهل يختلف اثنان من العقلاء على أن الدراجات النارية قد ضاق بها أهل المدن ذرعاً، بما في ذلك الكثيرون من أصحابها الذين يرتزقون منها، فقد وجدوا أنها مسئولة عن كثير من الإصابات والوفيات، والذين نجوا حتى الآن من خطرها لم يعودوا يستطيعون النظر إلى وجوههم في المرايا، فقد صارت وجوههم عليها غبرة وسحناتهم مفزعة وصورهم شاحبة من كثرة ما يلطّخها التراب والهواء الملوّث بالدخان والتراب والجراثيم وشتّى أنواع الأوبئة، حتى لقد صار لا يرى الناس منهم إلا سلوكاً خشناً وأخلاقاً سيئة ومعاملة قاسية، فهل مثل هذه الوسيلة تستحق نقلها إلى القرى؟ إنها لا تستحق أن تبقى في المدن ولا تستحق أن تكون في القرى!! رياضة المشي والسير على الأقدام في القرى يجب أن تكون هي البديل الصحي والبديل النظيف والمفيد جداً للجسم والعقل والنفس. طعام القرية فيه الكثير من الفوائد، فالحلبة والوزف والحقين واللبن الطازج من ضروع الأبقار والأغنام ليس له مثيل في طعام المدن.. فالكدِر أفضل من الكدم واللحوح أفضل من الرقاق وخبز الموفى أفضل من الملوج. ونسأل: لماذا جفّت ضروع الأبقار والأغنام؟ مع أن السماء مازالت تجود بالعطاء والأمطار في مواسمها.. عطاء الله لم يتغيّر وفضله لم يتبدّل، ورحمته لم يطرأ عليها التغيير، فحاشاه وألف حاشاه، وإنما الذي تغيّر إلى الأسوأ هم الرجال والنساء.. إنهم يتهمون الزمن في أنه هو الذي تغيّر وما تغيّر الزمن.. لقد تغيّر أهل القرى إلى حد بعيد، ورضوا أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولولا ذلك ما ترك أهل القرى قراهم إلى مدن صارت تفتقر إلى أبسط الشروط المعقولة والمقبولة لحياة الإنسان! كانت المرأة اليمنية عزيزة الجانب، قوية الإرادة، صلبة العزيمة، كانت هي المسؤولة عن تربية الأطفال والعناية بزوجها إذا عاد من هجرته أو غربته أو كان قائماً على زراعة حقله أو عاملاً بأجره عند غيره، وكانت إلى جانب ذلك تشكّل العمود الأساس في اقتصاد الأسرة، فقد كانت تُعنى بتربية الدجاج، فيتوفر لدى الأسرة في كثير من الأحيان فائض من البيض واللحوم التي كانت تعمّر بها الأسواق في القرى وتغزو الأسواق في المدن... فأين ذهبت تلك المرأة الأبية الفاضلة القادرة على ترويض الحياة الصعبة والظروف القاسية؟ لقد شارك الرجل العصري في القرى بتمييع شخصية المرأة وساعدها على الكسل البليد، وذلك بسبب جهله وتخلّفه وانحراف ثقافته متأثراً بثقافة الأفلام الهابطة والمسلسلات الماجنة، وبسبب خلو عقله من علم مفيد وخلو تربيته من توجيه رشيد، خصوصاً بعض أولئك الشباب الذين زاروا بلدان العالم للدراسة أو السياحة، فتأثروا بثقافة العري والتبرّج واستخدام الرجال للمرأة ليس له من هدف في الحياة سوى إمتاع الرجال. لابد أن تستعيد المرأة في القرى هيبتها وعزة نفسها وصلابة مواقفها في أن يكون لها دور في صنع الحياة في الريف وليس فقط في المدينة ولكن ليس بالضرورة أن نعيدها إلى نفس الحياة القاسية التي عاشتها أمهاتها وجدّاتها.. فلماذا لا تهتم الدولة بإقامة منشآت خدمية صحية وغير صحية في الأرياف كبناء مستشفيات ومعاهد تمريض ودورات مخبرية وإشعاعية وغير ذلك من المؤسسات التي تضمن مشاركة المرأة والرجل في الريف بصورة فاعلة ومبدعة؟، لماذا لا يتغيّر نظام المشيخة في القرى بحيث يكون الشيخ الفلاني هو المسؤول عن تحقيق الأمن في القرية وتيسير المعاملات للطلاب والطالبات في الالتحاق بالمدارس والمعاهد التي يجب أن تتوفر في القرى بعد تأهيلها؟ فإن لم تتوفر، فإنه يتوجّب أن تكون هناك إدارة محلية في القرى تكون هي مسؤولة عن تخفيف الأعباء عن الشباب والفتيات في إكمال معاملاتهم، ولا يتعرّضون للإحباط نتيجة الإهمال واللامبالاة من مسؤول الدولة في كل صعيد. توصيل الكهرباء للمناطق الريفية ليس هدفاً في حد ذاته ولكن يجب أن يكون وسيلة من وسائل تطوير الحياة التعليمية والمعيشية والثقافية بحيث يتعرّف الناس في القرى، الرجال والنساء على واجباتهم ويشاركون في صنع الحياة السليمة التي تنهض باقتصاد المناطق الريفية، أما السهر في متابعة الأفلام والمسلسلات فإنه يترتّب عليه فساد أخلاقي وسلوكي وعقلي أو نفسي يؤدي في النهاية إلى تدمير مستقبل الإنسان ذكوراً وإناثاً، بل إن السهر في القرى لأيّ سبب من الأسباب يحرم الإنسان من أن يتطلّع إلى السماء وجمال النجوم في السماء وجمال سماع الأذان لصلاة الفجر وروعة طلوع الفجر وشروق الشمس ونسيم الصباح، فالسهر في القرى يجب أن يرفضه العقلاء والأذكياء من أهل القرى كما يرفض الإنسان وباء الطاعون إذا سمع بقدومه من أي مكان.