أصبح واقع التعليم من العلل الشائكة التي يقف عندها الشكل التنظيري النظري المفتقد إلى الحل الفعلي والمهاري، فعندما قالوا لديجول: إن الفساد عمّ مؤسّسات الدولة، سألهم: هل وصل الفساد إلى التعليم..؟! فأجابوه: لا، فقال: إذاً فرنسا بخير، ونحن نتساءل: هل وصل الفساد إلى التعليم في وطننا..؟!. من خلال الواقع الملموس في المؤسّسات التربوية؛ نجد أن العوائق التربوية كثيرة وكبيرة تُنشر دون خفاء، والعاملين على الجانب التعليمي واثقون أن القانون الرقابي والضمير الذاتي غائبون عن المساءلة والمكاشفة والتأنيب. ما من أمّة تنهض إلا وكان التعليم هو الركيزة الأساسية في نهضتها، والمحرّك لكل ساكن، والمتحوّل الإيجابي والبوصلة الدقيقة إلى طريق الوعي والبناء والضمير الذاتي والرقيب على الأفعال والممارسات. إلقاء الفشل على أحد مكوّنات العملية التعليمية يعدُ إجحافاً وابتعاداً عن مبدأ الإنصاف والحقيقة، وغياب التخطيط التربوي والتعليمي السليم بكافة جوانبه المادية والبشرية هو الخلل الذي يؤدّي إلى تفاقم الخلل في التعليم، فإذا ألقينا نظرةً عابرة على كل المكوّنات المشاركة في العملية التعليمية بشكل رئيسي وثانوي سيتضح لنا مدى النقص والسلبيات في كل حلقات السلسلة للتعليم وتعثره، فالمكوّنات في العملية التعليمية «المتعلم – المعلم – المنهج – المدرسة – الإدارة المدرسية – المراكز التعليمية – مكاتب التربية – وزارة التربية – الأسرة – المجتمع – البيئة» فإذا أخذنا المتعلم محور اهتمام بناء العملية التعليمية فلا شك سوف نبدأ من نقطة انطلاقه ومناقشة خطواته الأولى في السلّم التعليمي ومدى اهتماماته والاهتمام به، فافتقاده إلى الحافز والرغبة والتشجيع في بداية السلّم التعليمي له من قبل الأسرة والمدرسة، وعدم تهيئة الظروف السليمة والبيئة المناسبة لغرس حب التعليم والعلم سبب في انعدام الثقة والرغبة في العلم. كما أن الكثافة الطلابية لا تخدم المتعلم والمعلم في التواصل التعليمي، وافتقاد المتعلم للمنهج العلمي السليم والمرافق للبيئة والتاريخ والأرض يؤسّس لديه انفصاماً في السلوك وحشواً معلوماتياً مقولباً؛ وحتى الجو التعليمي الذي يعيشه المتعلم جو إلقاء فقط يفتقد إلى جوانب الأنشطة التعليمية والطرق المهارية وتقنيات التحديث للمنهج والوسائل التعليمية. وهكذا تتضاعف لدى المتعلم مساحات البعد عن التعليم إلى ما سواه، وفرض وجود المتعلم هو الوصول إلى شكليات الانتهاء نحو التفكير في الشهادة ثم الوظيفة دون ما يحمل التعليم من معانٍ، أما ما يُحبّب المتعلم هو العلم المنهجي في مدخلاته ونجاح مخرجاته وما يصاحبه من أنشطة مدرسية وتعليمية علمية، كأنشطة الإذاعة والأنشطة المتعدّدة والرياضية والفنون والموسيقى، وإيجاد نوعية المشاركة المحبّبة في نوع النشاط لدى المتعلم وتوجُّهه، وزرع الثقة طريق للعلم والتعلم. أما حجر الزاوية للعملية التعليمية «المعلم» فقد تجاوز ما يسمّى «عوائق التعليم» إلى علّة مستدامة في واقع له ظروفه وعوامله، المعلم لا يخرج عن دائرة توصيل مهامه التعليمية إلا بطريقة وحيدة وغير متكاملة وهي طريقة الإلقاء وتغيب كافة الوسائل التعليمية والطرق المهارية إما بسبب عدم توافرها في الإدارة المدرسية أو عجز المعلم عن إيجادها للظروف المادية أو عدم توافرها أصلاً في بيئة مفتقرة لها، أو أنه لا يملك أساسيات الوسائل والأنشطة، وفاقد الشيء لا يعطيه. كما أن التأهيل غائب «كأسلوب علمي ومنهج» إضافة إلى وصول المعلم إلى تاريخ انتهاء الصلاحية قبل فترة أوانه أو تمسّه حالات الخروج عن التغطية للظروف المتشعّبة والمعيشية الصعبة التي تطحنه طحناً، والنظرة الدونية إليه من غالبية المجتمع مما ينتج المعلم السالب المحبط في واقع التعليم. أما التعامل القاصر بين المعلم والمتعلم؛ فتعكس حالة من الغرابة والعنف ضد بعضهما في الغالب وإن لم يبدُ ظاهراً، أما مكانة المعلم مع رسالة العلم عند البعض؛ فمن زاوية شغل مهمة وظيفية وقد لا تؤدّى بحقها، فوجود المعلم البديل أعطى له حرية التوجُّه نحو أعمال أخرى طلباً لسد حاجاته وحاجة أسرته وترك التعليم لغير المؤهّل علمياً كمعلم. وقد شارك في دونية النظرة إلى المعلم من كافة المجتمع الجانب الإداري التربوي ابتداءً من تأسيسه كمعلم؛ مروراً بالإدارة المدرسية، إلى نقابات التعليم، وانتهاءً بوزارة التربية؛ وذلك في ضياع حقوقه معنوياً ومادياً وعدم إعطائه المكانة كمعلم وصاحب رسالة بل رؤيته كفرد مُستغَل، مُستَهلَك، مُسخّر، عاجز..!!. بالإضافة إلى أن المنهج التعليمي منهج يفتقر إلى متطلبات البيئة، ووجود الحشو والتكرار في كل المناهج على مدى المراحل التعليمية العمرية، وافتقاره إلى التحديث، ويقوم المنهج على التعجيز المعقّد، وبين السهولة المفرطة في جوانبه والتكرار الممل وغياب التجديد، ووجود الأخطاء وحصره في إطار رؤية محدّدة لواضعيه دون الرجوع إلى حاجات المتعلم، كما أن الواقع المعاش يتطلّب معه إضافات منهجية ترافق الزمكانية، ويحتاج إلى حذف ما يغرسه من فكر متقوقع جامد لا إنساني؛ بمعنى أن المنهج يحتاج إلى وقفة مدروسة علمياً وإنسانياً. وما يجمع المعلم والمتعلم هو المبنى المدرسي الذي من المفترض حقاً أن تُحدّد فيه كل سُبل التسهيلات الموصلة لنجاح العملية التعليمية، وتُعد المدرسة البيت الثاني لما يُقضى فيها من أساسيات التعلم وخبرة الحياة، ومن هنا فوجود ه كمبنى فقط يحل إشكاليات الكثافة ونظام الفترتين ووجوده؛ بمعنى آخر أن يكون حيّاً ناشطاً بالحياة التعليمية والأنشطة والخطط الدراسية الإيجابية بحيث يحتوي على كل الأسس التعليمية والصحية والنفسية، وغرس القيم الدينية والثوابت الوطنية ومواكبة حداثة التعليم وتعلُّم حرية الفكر والرأي الآخر، وعدم إقصاء الآخر بأي حالٍ من الأحوال. الإدارة المدرسية والمتمثّلة في الإدارة المدرسية والمراكز التعليمية ومكاتب التربية ووزارة التربية بما فيها من الإشكاليات المحملة معها والصادرة منها بحجم لا متناهٍ، كما أن حل تلك العوائق سهل متناهٍ؛ إلا أن أدوار القائمين لم تطرح مهمة الحل سوى في تسيير الأمور على قدر. الإدارة المدرسية وما على منها جانب من جوانب الفشل في مكوّنات العملية التعليمية يتمثّل في عدم التأهيل لبعض القائمين عليها؛ بل من المخجل والمضحك أن بعض مديري المدارس وخاصة في المناطق الريفية مديرون بدرجة «شيخ» وليس بدرجة علمية، وغائب تماماً عن المسرح التربوي والعملية التعليمية وله مهماته المشيخية وأعماله، أو مديرون ومن وراءهم شيوخ، وبعض ممن يُحسبون كمؤهلين علمياً غير مؤهلين إنسانياً وإدارياً؛ فالسلوكيات الصادرة توحي بها فوجود التأهيل مع عدم الكفاءة واستغلال المنصب الإداري للحصد المالي في تشفير المعلمين وتقاسم رواتبهم ونظام المعلم البديل الذي أوجدته الإدارة التربية السالبة، والتعليم المنزلي الذي لا يخدم التعليم مطلقاً، وأخذ الإتاوات والرشوة التي قصمت أخلاقنا وإنسانيتنا وقيمنا، ووجود البطالة المقنّعة في المراكز التعليمية والمكاتب التربوية..!!. لا نحتاج إلى تقنيات لمعرفة الفساد؛ يكفي أن تنظر برؤية مجرّدة لترى الفساد طافحاً أمامك في مخرجات العملية التعليمية من المدرسة إلى الجامعة إلى حقل العمل، وفي إطار ذلك الفساد فحافظة الدوام للموظفين لا تمثّل الإقرار الشهري ولا تطابق كشوفات المرتبات، ستجد المصائب «منيّلة بستين نيلة» نحارب التعليم بطرق الحيلة والدونية والعجز في طريقة الفساد المالي والتعليمي من الغش وعدم التخطيط في المناهج، وعدم الإعداد السليم للمعلم والإداري، وعدم إقرار مبادئ الثواب والعقاب للجميع دون تفرقة أو تمايز معلماً أو إدارياً أو متعلماً. إن إصلاح التعليم أمر في غاية السهولة إن صلُحت النيّات وتحلّينا بالقيم والمسؤولية والوطنية، وتجرّدنا من مصالحنا الذاتية في سبيل إحياء الأجيال وبنائها لتكون ذخراً للوطن وأعمدة قوية راسخة متسلّحة بالقيم والأخلاق. يحتاج الوطن إلى النزاهة والكفاءة، يحتاج إلى بذل الجهود بيد واحدة في محاربة كل قنوات الفساد في الحقل التعليمي، ولا يمكن أن نبني وطناً في غياب العلم، ولن ترتقي أمّة والجهل ضارب في مفاصلها، فبالعلم والإيمان نحقّق أهدافنا.