تشيب قبل أوانها، وتقف في طابور الهموم مع الكبار، تفتقد لأهم مرحلة في حياتها التي يجب أن تعيشها. الطفولة التي لم تعد من حالها إلا مجرد اسمها، الحلقة الأضعف في عالم اللامبالاة، وتفكيك البنية الاجتماعية والأسرية، تلهث من تعب البحث عن ذاتها المفقود، وتنطوي في ركن بعيد عن عالمنا الصاخب، فلا تستطيع إلا أن تشارك المجتمع صخبه مجبرة دون قيد أو شرط. لم تعش طفولة اليوم طفولتها الطبيعية، ولم يُلب إشباع حاجاتها العمرية، فما يُكتب ويُصاغ من قرارات وقوانين تخصّها لا يلبث إلا أن يكون حبراً على أوراق غير خاضع للتفعيل. الطفولة حلقة ضعيفة شارك الجميع في إضعافها وكسرها، فالتربية الغائبة من قِبِل الأسرة وإطلاق العنان للسلوكيات دون التوجيه السليم، والتهذيب النفسي، ووجود الجهل بوسائل التربية السليمة، وعدم غرس القيم الإنسانية لها الدور الرئيس في ضياع الطفولة، وتنامي الاضطراب والتأرجح الأخلاقي.. طفولة اليوم مغتصبة الحقوق والذات، كُسرت براءتها الاستثنائية في عالم الإنسان، وتلوّثت بسوداوية الواقع، فصارت لسان حاله، وما يصدر عنها من أقوال وأفعال مخالفة لكل القيم لا تتحمله بقدر ما غرسته الأسرة فيه بطريق الخطأ المقصود أو غير المقصود، أو ما صنعه المجتمع. اليوم تعاني الطفولة من كل أساليب القهر والنقص بل والمعاملة القاسية، ولا غرابة أن تثمر معاناتها بأشواك تجرح المجتمع بكثير من المساوئ، فالألفاظ البذيئة التي تتردّد على ألسنتها ناتجة للتربية الخاطئة في بيئتها والسلوكيات التي كانت تُعد أخطاءً في حق مرتكبيها من الكبار تصدر اليوم من الطفولة على السواء، سلكت الجانب المظلم الخاطئ، وتشرّبت أخطاء المجتمع والآخرين لتتصف بها في أقوالها وأفعالها، فإذا كان المجتمع قد وقع في كثير من مساوئ الواقع فكان الأجدر أن نُجنب الطفولة هذه المساوئ لنؤسّس لمجتمع قادم نظيف. طفولة اليوم برغم التقدّم في أساليب العلم تأخرت، وطفولة الأمس بما قلّ من أساليب العلم تقدمت في الجانب الإنساني الفطري، طفولة الأمس هي طفولة الزمن الجميل، الطفولة البسيطة بالأفعال والتفكير، المحفوفة بالشقاوة المحببة، المتسمة بالقلوب البيضاء والقيم، والمتحفزة لكل ماهو أجمل وأفضل. ليس هناك أجمل وصف بمقارنة الطفولة بين زمنين مما كتبه الشاعر/فيصل اليامي في قصيدته الغنائية (عيال حارتنا) والتي غناها الفنان علي بن محمد (ياليت إن الزمن يرجع ورى والا الليالي تدور/ويرجع وقتنا الأول وننعم في بسطاتنا). ذلك الزمن حمل كثيراً من معانٍ جميلة وفاضلة تذوّقها المجتمع (زمان أول أحس أنه زمان فيه صدق وشعور/نحب نخلص النية وتجمعنا محبتنا). زمان لا يحمل الكره أو الرذيلة في التعامل مع الكبير والصغير(زمان ما فيه لاغيبة ولا حتى نفاق وزور/ياليته بس لو يرجع ونسترجع طفولتنا). لم تعد الغيبة ولم يعد النفاق والزور في زماننا عيباً أو رذيلة فقد انتشر ماهو أعظم في عالم الكبير والصغير، وبينما تفكير طفولة الأمس كان بسيطاً ونظيفاً، فتفكير طفولة اليوم مشلول ومرتبك (صغار قلوبنا بيضاء نعيش بعالم محصور/ولا نعرف أغراب ما غير عيال حارتنا/صحيح صغار في التفكير لكن ما علينا قصور/نخطط نكسر اللعبة وتسعدنا شقاوتنا). وهكذا يغنّي الفنان/علي بن محمد لطفولة الأمس وذكريات الزمن الجميل لتدور الأيام بزمن الألم والهمّ والقهر (ولكن دارت الأيام وبان الخافي المستور/وصار الهم متعالي على قمة سعادتنا/ كبرنا وصارت الدنيا تصف أحزاننا بالدور/ وتهدينا الألم والهم غصب عن عين رغبتنا/تعبنا من بلاوينا/واحد ضايق واحد مقهور/وكل غارق بهمه وفي الآخر تشتتنا).. نتمنّى أن يعيش المجتمع الجانب الإيجابي، وأن تُرفع يد الظلم عن الطفولة ليتعدّل وضع عيشتها وعيشتنا. [email protected]