مثل وقع زلزال تخلّى الروائي العالمي الأريحي «جي دي موباسان» عن وظيفته الإدارية في وزارة التعليم العام والفنون الجميلة بفرنسا بعد انغماس دام لخمس سنوات في العمل الإداري احتجاجاً على تصرُّف أحد الموظفين والذي قضى سنوات عمره في الوظيفة البالغة 23 عاماً في صبّ لعناته على زملائه في العمل من دون أي إنجاز آخر..!!. خلال السنوات الخمس لم يتجرّأ موباسان على أن يكون “ملقناً” لا “متلقياً” لسيل الكلمات البذيئة التي يعترف شخصياً أنه استفاد منها في أعماله الأدبية؛ والسبب هو اكتشافه الممر السحري الحقيقي والمؤدّي إلى السعادة الإنسانية والكامن في المعرفة، المعرفة التي أغلق ذاك الموظف البائس عقله عنها بقفل كبير مكتفياً بأداء وظيفة واحدة محدّدة تتلخّص في لعن وسب الآخرين..!!. ولأن مبرّر موباسان في الاستقالة من وظيفته كان غير منطقي بحيث لم يتفهمه مسؤوله الكلاسيكي؛ ابتكر مبرّراً كلاسيكياً تمثّل في رفضه للقيود التي تفرضها الوظيفة الحكومية بما فيها من ضجر ورتابة, ومما قاله في ذلك: “يجب أن نكتب على باب الوزارات هذه العبارة الشهيرة لدانتي: «أنت الذي تدخل هنا، تخلّ عن كل آمالك» فالمرء يدخل إليها في سن الثانية والعشرين ويبقى فيها حَتَّى الستين، وخلال هذه الفترة الطويلة لا يحدث أي شيء، تمر الحياة بكاملها في هذا المكتب الصغير المعتم، ودائماً فيه نفسه، وسط المغلّفات الخضر». وكي لا أقع معكم في الفخ ثمّة جانب مضيء ومشرق في الموظف المعاكس للأول؛ ذاك الموظف الذي مرّ من خلال بوابة المعرفة اللذيذة واكتسب منها شيئاً يسيراً مكّنته من إدراك قيمة ورسالة ما يفعله ويؤدّيه من مهام مناطة به مهام تنتهي لخدمة الإنسانية. بين الأول والثاني ليس ثمّة حل وسط؛ ليس ثمّة موظف يعيش متقلباً بين الحالتين إلاّ في قانون الغاب، ومن مؤشرات قانون الغاب انحدار الإدارة إلى هاوية مظلمة ومعتمة، فعندما تنهار الإدارة وينفتح ذاك الثقب المسمّى “المزاجية” وتضيع حقوقه؛ تجده يلعن ويسخط، لكنّه بصمت الكبار يعود إِلَى أداء رسالته بكل حب ومعرفة. لقد تخلّى “موباسان” صاحب الرواية الأشهر “كتلة الشحم” عن وظيفته الحكومية؛ لأنه عجز طيلة سنوات وظيفته عن اكتشاف العلاج الناجع لهذا الموظف المقهور المغلوب على أمره، الفاقد لحقوقه، المؤدّي لواجباته وإن لم يُكلف بها مقابل مكافأة، التائه في معاريج الأمنيات بقرار إداري ينتشله من تغلغل إحساسه بالقهر والظلم والحرمان إلى حد لا يُطاق. [email protected]