معروف أن المشكلة اليوم تتجاوز مجرد الخلاف على صيغة الحكم في المرحلة القادمة على طريق الانتقال إلى الوضع الطبيعي في ظل دستور وإجراءات ديمقراطية تنضبط على إيقاعها تفاصيل المشهد السياسي. المشكلة الأم تتمحور في الخلاف حول طبيعة وجود السلطة وطبيعة توزيع الثروة وعلاقة ذلك بفكرة المركزية أو الأقلمة, وهذا هو السبب في ما يظهر اليوم من ارتدادات ونزعات لا وطنية كالمناطقية والجهوية والمذهبية, وهذا يعني أنه صراع سياسي مادي بامتياز, ويخطئ من يظن أنه صراع طائفي أو مذهبي, فليست الروائح الطائفية والمذهبية والجهوية وثنائية (الداعشية والرافضية) التي تنتشر اليوم إلا نتاجًا لذاك الخلاف حول توزيع السلطة والثروة. وإذن فما الحل لهذا الصراع؟ لاشك في أنه لن يكون إلا يمنيًا؛ لأنه خلاف حول ترتيب البيت الداخلي, وحين يأتي الخارج أو يجري استدعاؤه؛ فإنه يأتي مشبعًا بحسابات موسعة تتجاوز قضية الخلاف حول السلطة والثروة بين اليمنيين وما يفرزه من أزمات .. إن الخارج يأتي بمفاهيم متعلقة بالصراع الإقليمي ومصالح الدول الكبرى وأهدافها الاستراتيجية المتعلقة بطبيعة وجودها المهيمن في المنطقة العربية وإشرافها على حركة الجيوش واستخراج الثروة وخطط الإضعاف التي تختلق من أجلها أسبابًا للاستمرار في التدخل وخلط الأوراق, وبهذا كله وغيره تأخذ المشكلة اليمنية اليوم – على سبيل المثال – حجمًا أكبر من حجمها الطبيعي, ويظل الحل شيئًا صعبًا, ويستمر الخلاف حتى يصبح الصراع والحروب والواقع المأزوم أمرًا طبيعيًا لا يمكن تصور الحياة العربية بدونه, وكم مرة سمعنا الأممالمتحدة على لسان مبعوثها الخاص إلى اليمن, تردد أن دورها يتمحور في (تيسير) الوصول إلى الحل, فأين هو هذا التيسير, ألم يستمر المشهد منذ 4 سنوات في السير باتجاه التعقيد؟ أليست الأوضاع اليوم أعقد من أمس, وأوضاع أمس أعقد من أمس الأول؟. إن الحل لن يكون إلا يمنيًا؛ لأن معنى (الحل) التسوية التي يرتضيها طرفا الخلاف ويرضيان عنها بدافع من قناعة ذاتية بضرورة الصلح وحتمية السلام والقبول بالآخر في وطن لجميع أبنائه حق فيه, وشركاء في إدارته وبنائه بعيدًا عن هيمنة طرف على آخر, ومن منطلق أن الدولة ليست أنت ولا أنا, وإنما هي القانون والمؤسسات التي تعمل في إطاره بموضوعية وحياد, وهي النسيج الوطني الذي تقوم عليه المؤسسة والمشروع والجيش والممثلون للدولة في الداخل والممثلون لها في الخارج, مثلما أن الثروة هي ملك لجميع أبناء الوطن. فالحل إذن تصنعه القناعة أولاً بهذه المبادئ, وقد علمتنا التجارب أن استقرار الأوطان لا تصنعه ثقافة الغلبة وقوة السلاح في الداخل وفرض السيطرة والإخضاع, ولا يصنعه أيضًا سلاح الخارج والردع الدولي .. الحلول وإحلال السلام والتعايش وإنقاذ الأوطان أمور تصنعها قناعة تامة وإرادة ذاتية من أطراف الصراع بأن الحروب ليست حلاً, والقوة لا تحسم خلافًا, وما حرب صيف 94م عنا ببعيد, فهي حرب قصيرة في شهر ونصف أو شهرين ذهبت بعدها, ولكن القضية لم تذهب, ولم تطوَ صفحتها, وهي اليوم بعد ربع قرن من الزمان لاتزال عنوانًا بارزًا في سفر الوطن الغارق في بحر الأزمات والصراعات, بل إن الحرب, وهكذا هو طبعها, تخلق من المشكلة مشكلات أخرى رديفة, تعمق هوة الخلاف وتوسعها, والكل يعرف أن القضية الجنوبية قبل الحرب ليست هي القضية الجنوبية بعد الحرب, وهكذا هو الحال مع غيرها من القضايا الوطنية الكبرى التي احتدم بسببها الصراع وسالت فيها الدماء, فمن المؤكد أن قضية صعدة قبل الحروب الست ليست هي نفسها بعد هذه الحروب, ومن المؤكد أن هذه القضية قبل 21 سبتمبر و5 نوفمبر ليست هي نفسها الآن, فثمة حيثيات ومعطيات جديدة تعطي القضية شكلاً آخر وإن بقي جوهرها كما هو عليه. إذن فكلا الاستقرار والنهوض بالوطن لا يتحقق إلا بالقناعة الثنائية بالحل والرضا الكامل لدى الفرقاء وانعكاس هذا الرضا على القواعد الشعبية التي يؤثر فيها هؤلاء الفرقاء المتناحرون .. فلكل مشكلة حل, والتنازل أمر لا بد منه, والأكثر انتصارًا هو الأكثر تنازلاً, وهذه هي الوطنية الحقة التي تنجح في حفظ الدماء وصون الحقوق وتطهير القلوب من نزعات الحقد والكراهية, وبدون ذلك سينهدم السقف على الجميع, فهل أدركنا ذلك؟!. [email protected]