من أجل تقديم تحليل ملموس لموضوع السلطة، فإن «ميشيل فوكو» في كتابه «يجب الدفاع عن المجتمع»، الذي يتضمن مجموعة المحاضرات التي ألقاها في «الكلية الفرنسية»، سنة «1976»، يرى أن علاقة السلطة بأساليب الهيمنة، وممارسات الإخضاع، لا تخص الأنظمة الشمولية أو «التوتاليتارية» فقط.. وإنما تميز كذلك، المجتمعات الديمقراطية.. فحيثما توجد السلطة توجد المقاومة.. لا تستطيع السلطة ممارسة الهيمنة المطلقة والثابتة، لأن المقاومة، بأشكالها المختلفة، تخترق السلطة.. لذلك، فإن السلطة والمقاومة تتجابهان بتكتيكات متغيرة، متحركة، ومتعددة، في إطار علاقات القوة، أي ليس في إطار القانون والسيادة، بل في إطار الصراع والإستراتيجية التي يتوجب تحليلها.. فالسلطة ليست السيادة، ولا القانون، ولا المصلحة، ولا الإرادة، ولا القصد.. إنها لا تنتمي للطرح القانوني لمبدأ السيادة.. وكذلك الحال بالنسبة للمقاومة، فهي ليست من باب القانون، أو ما يسمى بحق المقاومة.. ولذلك، يستبعد فرضية السيادة، أي من الضروري التخلي عن النموذج القانوني للسيادة.. صحيح أن هذا النموذج يفترض أن الفرد هو موضوع القانون، ويقدم الأصل المثالي للدولة، ويجعل من القانون المظهر الأساسي للسلطة، ولكن يجب دراسة السلطة انطلاقاً من علاقاتها، فبدلاً من النظر إلى الأفراد من حيث تنازلهم عن بعض حقوقهم من أجل السلطة، كما يقضي بذلك العقد الاجتماعي، يجب تجنب تحليل السلطة بناء على النموذج القانوني للسيادة، والقيام بالبحث في كيف أن علاقات السيطرة تصنع الأفراد.. يجب أن ننظر إلى السلطة في تعددها وتنوعها واختلافها وخصوصيتها، أي يجب دراستها كعلاقات قوة متقاطعة، تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى.. وبدلاً من إعطاء أهمية وأولوية للقانون بوصفه مظهراً أساسياً للسلطة، يجب تعيين وتحديد مختلف تقنيات الإكراه التي تقوم عليها السلطة. وإذا كان يجب التفكير بالسلطة بمفردات علاقات القوة، فهل يجب تحليلها في إطار الشكل العام للحرب؟.. أي على أساس الحرب؟ ويتضمن هذا السؤال العام أسئلة فرعية أخرى، منها: هل يمكن اعتبار السلطة كحالة أولية بالنسبة لجميع العلاقات، حيث كل مظاهر الهيمنة والاختلاف والتراتب الاجتماعي يجب اعتبارها وكأنها مشتقة منها؟.. وهل يمكن اعتبار عمليات التناحر والمواجهة والصراع بين الأفراد والجماعات والطبقات ناتجة في النهاية أو في اللحظة الأخيرة من العمليات العامة للحرب؟.. وهل يمكن اعتبار مجموع المفاهيم المشتقة من الإستراتيجية والتكتيك أنها تشكل وسيلة ملائمة لتحليل علاقات السلطة؟.. وهل يمكن اعتبار المؤسسات العسكرية والحربية، والإجراءات المتخذة لقيام حرب بأنها تشكل نواة المؤسسات السياسية؟.. ومتى كان النظام المدني في أساسه نظام معركة؟.. وكيف أدركنا أن الحرب هي وراء السلم، أو تقف خلف المظهر العام للسلم؟.. ومن هو الذي بحث في ضجيج الحرب، وفي وحل المعارك عن مبدأ لمعقولية النظام والمؤسسات والتاريخ؟.. ومن هو أول من فكر بأن السياسة هي حرب مستمرة بوسائل أخرى، وليس الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى؟.. 1 - إن الذات الذي تتحدث به السلطة في هذا الخطاب لا تستطيع معه أن تحتل وضعية الفقيه أو الفيلسوف المشرع، ففي وضعية الصراع العام الذي تتحدث منه، لا يمكن لها إلا أن تكون في هذا الجانب أو ذاك، مع هذا الطرف أو ذاك، إنها في المعركة ولها خصوصيتها وأعداؤها، وتصارع من أجل النصر.. إنها تبحث عن أن يكون لها حق دون شك، ولكن يتعلق الأمر بحقها، حق خاص أو فردي يتميز بعلاقة غزو وهيمنة أو أولية وأقدمية: حق العرق، حق الغزاة والمحاربين المنتصرين.. وإذا ما تحدثت عن الحقيقة، فإنها تتحدث عنها بوصفها أفقاً وإستراتيجية تسمح لها بالانتصار.. إذاً، لدينا هنا خطاب سياسي وتاريخي يتصل بالحقيقة والقانون، ولكن يبعد نفسه بشكل صريح عن الكونية التشريعية أو القانونية أو الفلسفية.. ودوره ليس هو الدور الذي حلم به المشرعون والفلاسفة، من «صولون» إلى «كانط»، لأنه يتعلق بفرض قانون متميز، يعمل من أجل حفظ الامتيازات أو من أجل إقامتها، كما يتعلق الأمر بإقامة حقيقة تعمل كسلاح.. فبالنسبة لذات تقول بهذا الخطاب، فإن الحقيقة الكونية والقانون العام مجرد أوهام أو شراك. 2 - إن هذا النوع من الخطاب يتطور كلية في البعد التاريخي.. فهو لا يعمل على تقييم التاريخ والحكومات الظالمة والتجاوزات والعنف، بناء على مبدأ مثالي أو عقل أو قانون، ولكن بالعكس، عنه يحاول أن يوقظ من تحت أشكال المؤسسات والتشريعات الماضي المنسي للصراعات الواقعية، الانتصار أو الهزائم المقنعة، إنه يغلي الدم المجمد في القوانين، وحقل مرجعيته هو الحركة اللامتناهية للتاريخ، ولكن يمكن أن يستند إلى تراث أسطوري تقليدي من قبيل: «العصر المفقود لأسلافنا العظام.. عودة الدولة الجديدة التي ستمحو الهزائم القديمة».. إنه خطاب قادر على أن يحمل حنين الأرستقراطية والثأر الشعبي معاً.. وإجمالاً، فإنه بمقابل هذا الخطاب «الفلسفي- القانوني»، الذي ينتظم حول مشكلة السيادة والقانون، هناك خطاب آخر يظهر استمرار الحرب في المجتمع، إنه الخطاب التاريخي- السياسي، حيث تعمل الحقيقة كسلاح من أجل نصر متحيز، خطاب نقدي وأسطوري معاً.. لذلك يجب استبعاد بعض المرجعيات الخاطئة، وخاصة ما سمي بحرب الكل ضد الكل، لأنه لم يكن أبداً حرباً واقعية وتاريخية، وإنما يعبر عن لعبة تمثلات أو تصورات، يستطيع بها كل واحد أن يقيس الخطر الذي يمثله الآخر، متوقعاً إرادة الآخرين في الصراع، وتقييم الخطر الذي عليه هو نفسه أن يقيمه إذا ما لجأ إلى القوة.. وهنا لا تقوم السيادة على واقع الهيمنة القاهرة، ولكن على حساب يسمح بتجنب الحرب، فحالة اللاحرب بالنسبة ل«هوبز» هي التي تؤسس الدولة وتعطيها شكلها.. ونخلص إلى القول إنه في تاريخ الحروب كأساس للدول، وعلى أساس من الهيمنة الحربية، حلل المؤرخون، كل بطريقته الخاصة، تاريخاً يشكل سلسلة من المواجهات الدائمة بين المنتصرين والمهزومين، في إطار حرب الأعراق، أو «المواجهة البيولوجية».. وفي القرن ال«19» تطور إلى جانبه نمط من تحليل التاريخ على أساس الصراع الطبقي.. ولذلك، فإن عبارة «يجب الدفاع عن المجتمع» تحتل مكانة أساسية في السلطة، إنها تحليل لمولد السلطة الانضباطية والحيوية، وجينالوجييا [دراسة أشكال التاريخ من أجل رصد التكوينات المعرفية والثقافية للظواهر، ثم تحليل أسباب سيطرة موضوعات معينة في تاريخ محدد] السلطة المطبقة على السكان وعلى الأحياء، ومن هنا جاء مصدر تسميتها ب«السلطة الحيوية». ونختم بمقتطفات من أقوال «فوكو»: “السلطة ليست مؤسسة، وليست بنية، كما أنها ليست قوة أكيدة فنحن نتوهم ذلك، وإنما هي تتسم لحالة استراتيجييه معقدة في مجتمع معين.. وأنا لم أفعل سوى رصد كيف تعمد عدد من المؤسّسات إلى ممارسة سلطتها، باسم المعايير المعهودة، على مجموعات من الأفراد، قياسا بعدد من التصرّفات والتصنيفات التي تمسّ الذّات البشرية، من حيث طريقة وجودها وأفعالها وأقوالها، والتي صُنِّفت على أنّها غير عادية، أو هي من قبل الجنون أو المرض إلخ... فالواقع أني لم أفعل سوى وضع تاريخ السلطة.. فلا تتعب نفسك بمواجهة السلطة، فالسلطة شكَّلتك جيداً لكي تكون معارضاً مطيعاً، وفق شروطها هي لا أنت!!.. ولكن بالحرية تستطيع أن تصارع وتناضل وتصبح قوة سياسية وتاريخية». [email protected]