من البديهي أن كلمة «عاصمة» التي تعني: المنع والحماية والوقاية، لها دلالة واضحة على أنّ أهم صفة للعاصمة هي أن تكون بمثابة حامية الدّولة، وحصنها الحصين، بوصفها المدينة السياسية الرئيسة للدولة، وفيها مقر الحاكم، وأهم المراكز الحكومية، وقاعدة للسلطة الإدارية وغيرها من المراكز الإدارية ذات الأهمية، وغالباً ما تشهد كثافة سكانية عالية، وحركة تجارية واسعة، وتتمتع بموقع جغرافي متميز، كوقوعها على طرق تجارية، أو على موانئ كبرى. للدّول، غير أنّها ليست معصومة عن التغيير والاستبدال.. فقد أقدمت دول عدّة على نقل عواصمها إلى مدن أخرى، فما دواعي هذا التغيير؟ بقراءة سريعة لتاريخ هذه الظاهرة نجدّ أنّه ليس غريباً أن تقوم المجتمعات والأنظمة بتغيير عواصمها، بل تعد ظاهرة مألوفة تاريخياً، فقد تأتي الدوافع التي استدعت ذلك مرتبطة ومتزامنة مع بروز أحداث تتصل بسياق بناء الدولة والمجتمع، ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر: أولاً- تغيير العواصم لأسباب تتعلق بالمراحل الانتقالية الحرجة: كما في حالة (روسيا) عند قيام الثورة البلشفية عام (1917)، تم اختيار (موسكو) عاصمة لها، لتصبح بعد ذلك عاصمة للاتحاد السوفيتي، ثم تستمر بعد سقوط جدار برلين عاصمة لروسيا الاتحادية، بعد أن كانت مدينة (سانت بطرسبورغ) التي أسسها القيصر (بطرس الأكبر)، هي عاصمة روسيا القيصرية، لمدة (206) سنوات، خلال الفترة من (1703 - 1918).. وكذلك الأمر بالنسبة ل(كازاخستان)، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي نشأت جمهوريات عديدة، منها كازاخستان، فحوّلت العاصمة إلى (آستانا) كأحدث العواصم، وهي مدينة صممت لهذا الغرض، وأصبحت عاصمة لجمهورية كازاخستان عام (1997)، عوضاً عن مدينة (ألماتا)، التي بقيت عاصمة اقتصادية وأكبر مدن البلاد.. كما غيّرت (ماينمار) عاصمتها (بورما) بعد التحول إلى دولة عسكرية عام (2005) من (رانجون) إلى (نايبيداو). ثانياً- تغيير العواصم لأسباب أمنية: لقربها من مناطق الخطر التي تتعارض مع اعتبارات استدامة الدولة وتطورها، والتي تصبح بيئة طاردة للنظام والقانون.. بيئة غير صالحة لتأسيس نظام حكومي، وفرض سيادة القانون.. نظراً لتحول بعضها إلى مركز لتجار الحرب المتنفذين، وتعشش في حواريها خلايا المليشيات القبلية التي تقتل وترهب الناس لأجل فرض الهيبة على الجميع. كما يمكن نقلها لأماكن ومدن أخرى.. وفي كل الأحوال نجد أن المدن التي كانت عواصم ما تزال تحتفظ بجاذبيتها، وأهميتها.. وبالتالي لا يعدو الأمر أكثر من تغيير إداري فقط، لدعم بناء الدولة خلال هذه المرحلة التي استدعت هذا التغيير.. مثلما حدث في (نيجيريا)، إذ نقلت العاصمة من (لاغوس) أكبر مدن البلاد وقطبها الاقتصادي، إلى (أبوجا) عام (1991)، لأنّ الأولى لم تعد تصلح كمقر للحكومة بسبب الاكتظاظ السكاني والانقسامات السياسية، فضلاً عن سوء طقسها.. وكان من تبعات الخلافات السياسية في اليمن أن أعلنت مدينة (عدن) عاصمة مؤقتة للجمهورية اليمنية، ولكن اعتمادها عاصمة رسمية يقتضي تعديلاً دستورياً. ثالثاً- تغيير العواصم لأسباب مرتبطة بالاستعمار والحروب: والتي نتج عنها انقسام بعض الدول إلى شطرين متباينين سياسياً وأيديولوجيا، وبالتالي أصبح لكل منها عاصمتين، فقد قسمت كوريا، إلى شطر شمالي، عرف باسم (جمهورية كوريا الديمقراطية)، وعاصمتها (بيونج يانج)، و جنوبي، عرف باسم (جمهورية كوريا الوطنية) وعاصمتها (سيؤول).. كما قسمت فيتنام إلى جزئين، شمالي عرف ب(جمهورية فيتنام الديمقراطية الشعبية(، وعاصمتها (هانوي)، وجنوبي عرف ب(جمهورية فيتنام)، وعاصمتها (سايغون).. وكذلك الأمر بالنسبة ل(ألمانيا)، حيث قسمت إلى شطر شرقي، عرف باسم (جمهورية ألمانيا الديمقراطية)، وعاصمتها (برلين)، وألمانيا الغربية، وعاصمتها (بون).. ويندرج في هذا الإطار بلادنا (اليمن) قبل إعادة تحقيق وحدتها عام (1990)، والتي كانت تنقسم إلى دولتين في الشطرين، عرف الشمالي ب(الجمهورية العربية اليمنية)، وعاصمتها (صنعاء)، والآخر جنوبي عرف ب(جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، وعاصمتها (عدن). رابعاً - قد تكون لبعض الدول أكثر من عاصمة، كما هو الحال في المغرب، حيث تعد مدينة (الرباط) هي العاصمة السياسية والإدارية، بينما نجد (الدار البيضاء) التي تعد أكبر مدينة في قارة أفريقيا، هي العاصمة الاقتصادية.. وبالمقابل فإن لمقاطعة (كشمير) عاصمتين: صيفية وأخرى شتوية.. وكذلك لدولة جنوب إفريقيا، ثلاث عواصم تفصل بين السلطات، التنفيذية (بريتوريا)، والقضائية (بلومفونتين)، والتشريعية (كيب تاون).. وتتمتع (ماليزيا) بوضع استثنائي، فهي عبارة عن اتحاد مكون من (13) ولاية، وثلاثة أقاليم اتحادية، ويتوزع الحكم بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات، فالعاصمة هي« كوالالمبور»، في حين أن مدينة «بوتراجايا» هي مقر الحكومة الاتحادية.. واتساقاً مع ذلك صممت مدنها كعواصم سلفاً: سياسية، اقتصادية، إدارية، تعليمية، إلخ.. كما تناوبت العاصمة في (تركيا) على مدينتي (أسطنبول وأنقرة). خامساً - بالإضافة إلى ما سبق، هناك بعض من الدول التي غيرت عواصمها في العصرين الحديث والمعاصر، سنشير إلى بعض من نماذجها، هي: - الولايات المتحدة الأمريكية: كانت عاصمتها السابقة (نيويورك)، وتحولت إلى (واشنطن). - الصين: كانت عاصمتها السابقة (نانكين)، وتحولت فيما بعد إلى العاصمة الحالية (بكين). - كندا: كانت مدينة (كينجسون) هي العاصمة السابقة، وانتقلت إلى العاصمة (اوتاوا). - الهند: كانت العاصمة السابقة (كلكتا)، وأصبحت (نيودلهي) هي عاصمتها الحالية. - فنلندا: كانت عاصمتها السابقة (توركو)، وأصبحت عاصمتها الحالية (هلسنكي). - البرازيل: خططت البرازيل لبناء عاصمة أكثر توسطاً في البلاد، وافتتحت بعض بناياتها التي صممها المهندس المعماري (أوسكار نيميير) عام (1960(، لتعويض (ريودي جنيرو) التي تعد عاصمتها الشهيرة منذ خمسينيات القرن العشرين. - أوكرانيا: كانت مدينة (خاركوف) هي العاصمة السابقة، وانتقلت عوضاً عنها إلى العاصمة الحالية (كييف). - بالاو: كانت عاصمتها السابقة (كورو)، وأصبحت مدينة (بميلكيوك) هي العاصمة الحالية. - ساحل العاج (كوت ديفوار): تعد (أبيجان) عاصمة ساحل العاج الاقتصادية وأكبر مدنها، ولكن زعيم الاستقلال (فليكس هوفويت بواني)، قرر في ستينيات القرن الماضي بناء عاصمة جديدة، في مسقط رأسه، فأصبحت (ياموسوكرو) عاصمة البلاد عام (1983). - تنزانيا: أنجزت مخططات مدينة (دودوما) كعاصمة لتنزانيا الجديدة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي على يد المهندس المعماري الأمريكي (جيمس روسنت).. ولكن الانتقال إليها لم يحدث مثلما كان متوقعاً، إذ يعقد البرلمان جلساته في (دودوما)، ولكن أغلب الوزراء والسفارات الأجنبية بقيت في العاصمة القديمة (دار السلام). - أوغندا: كانت العاصمة الأوغندية السابقة (عنتيبي)، وأصبحت عاصمتها الحالية (كمبالا). - البحرين: عاصمتها السابقة (المحرق)، وأصبحت عاصمتها الحالية مدينة (المنامة). - مصر: انضمت جمهورية عربية مؤخراً إلى دول العالم التي غيرت عواصمها، إذ قررت الحكومة المصرية بناء عاصمة إدارية جديدة، في ضواحي القاهرة. [email protected]