ليس هناك أدنى شك أنه في الوقت الذي يميل فيه الناس نحو عقد صداقات وروابط ودية بينهم وبين الآخرين، نجد هناك من يتقن فن إيذاء الآخرين والاعتداء عليهم مادياً ومعنوياً، الأمر الذي أدى بالمتخصصين في علم النفس الاجتماعي إلى كشف النقاب عن الجانب المظلم لدى الإنسان، من ناحية، والجانب الوضاء لديه، من ناحية أخرى، ومن المعلوم أن العنف والعدوان يزدادان طبقا للمؤثرات والمشاهدات العنيفة، كما تزيد لدى المجرم مستويات الهرمون الذكوري في الدورة الدموية وقت ارتكابه الجريمة، حيث ترتفع مستويات هرمون الذكورة لدى المجرمين من الرجال المتورطين في الجرائم العنيفة وذلك بعكس النساء، وتؤكد نتائج الدراسات أن الرجال يرتكبون ستة أضعاف ما ترتكبه النساء من جرائم القتل. وبالمثل يؤثر الطقس الحار في زيادة الجرائم البشعة مقارنة بالجرائم العادية المناخ بما يتضمنه من برودة وحرارة ورطوبة أثناء ارتكاب الجريمة، فقد لاحظ «بيل»، الباحث في علم النفس الاجتماعي، عام 1990، أن الحرارة والرطوبة والتهوية والضوضاء تؤدي كلها إلى العدوان الزائد لدى الإنسان أو تصيبه على الأقل بالشعور العدائي نحو الآخرين، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات استمرار العنف. فالعدوان هو سلوك موجه لإيذاء الغير عمداً.. وقد تكون صورة هذا العدوان بمثابة رد فعل من شخص يوصل من خلالها رسالة غير سارة إلى شخص آخر.. وقد يتضمن رد الفعل نية الإيذاء، هو الاعتداء على الآخرين من أجل ألحاق الضرر بأشخاصهم أو بممتلكاتهم.. إن إلحاق الضرر هذا يعد هو نهاية المطاف للعنف، والطريق المباشر والوسيلة التي تبرز نزعات الغضب والقوة والإيذاء، والأداة الرئيسية المحركة للعنف. فما هي الدوافع والأسباب التي تؤدي إلى نشأة وبروز ظاهرة السلوك العدوانى؟.. في إطار محاولتنا للإجابة يمكننا تصنيف عدد من هذه الدوافع والأسباب التي تسهم في ظهور السلوك العدواني لدى الفرد، من أهمها: أولاً- الأسرة: حيث أظهرت دراسة أجريت عام (1980) وجود ارتباط بين طلاق الزوجين وظهور السلوك العدواني لدى الأطفال كرد فعل للضغوط والصراعات داخل المنزل. إن الأسرة التي تستخدم العنف المادي أو المعنوي في كل نزاع، فإنها تميل إلى استخدام نفس هذا الأسلوب مع الآخرين، ومن ثم فإن الطفل العدواني فيها هو نتاج طبيعي لسلوك هذه الأسرة. ثانياً- الوضع الاقتصادي والاجتماعي: أثبتت دراسة أجريت عام «1982» أن الأسر ذات الانتماء الاجتماعي المنخفض، تعمد إلى عقاب الأطفال باستخدام العنف المادي، مثل الضرب، الصفع، الركل، بصورة أكبر، بينما تميل الأسر التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى إلى استخدام العقاب النفسي، مثل: النبذ، واللامبالاة، والتجاهل، والإهمال، وهذا يفسر زيادة نسبة السلوك الإجرامي بين بعض أفراد الأسر الفقيرة. ثالثاً- جماعة الأصدقاء: من المعلوم أنه تحت تأثير الجماعة يقل التفكير المنطقي، وتبتعد المعايير الاجتماعية التي تتحكم في السلوك العدواني، ومن ثم تظهر جميع الاندفاعات العدوانية المكبوتة في مختلف الاتجاهات. رابعاً- دور المجتمع: فالمجتمع الذي تغيب فيه العدالة الاجتماعية في توزيع المكاسب وإشباع الحاجات لدى الأفراد، تنتشر فيه مشاعر الحرمان والإحباط، وضعف الانتماء للوطن، والشعور بالاغتراب، فإن مثل هذا المجتمع يوفر البيئة الخصبة لدى أفراده لإثارة السلوك العدواني بأنواعه المختلفة، كالسلبية واللامبالاة، والتطرف والتعصب، الذي يشير إلى التزام الفرد بفكرة ما، والتحيز لها.. أو التحيز لجماعة ما.. أو عدم القبول بموقف ما، أو رفض الإقرار بالاختلافات الطبيعية.. وهو الوجه الثقافي والفكري للعنف، ويؤدي إليه. وبالتالي الخروج عن القانون وارتكاب الجريمة. ويفسر علماء النفس الاجتماعي العدوان من منظور المقاصد الكامنة وراء السلوك البشرى، فإذا كانت المقاصد الكامنة وراء السلوك منطوية على إلحاق الأذى والضرر المتعمد بالآخرين، فإن ذلك يعتبر عدواناً، ويرى «بيركاوتز» أن حالات الإحباط الشديد أو الفشل تؤدي إلى ظهور قدر معين من العدوانية التي تستند إلى كمية المشاعر السلشبية الناجمة عن هذه الحالة، ولما كان الإحباط مفتاحاً للغضب, ولما كان الغضب بدوره يؤدي إلى العدوان، ولما كان العدوان يعد بمثابة (الدينامو) الذي يقوم بتوليد العنف، فإن العنف يتحول في هذه المنظومة «السيكودينامية» إلى سلوكيات مضطربة، ومسالك دامية، تتبلور في نهاية المطاف لتصل إلى الانتقام.. لأن الإخفاق في تحقيق الأمل يحدو بالمرء نحو العدوان، وقد ثبت علمياً أن بعض جرائم القتل قد تحدث نتيجة إهانة الشخص أو الحط من كرامته والتقليل من قيمته على مرأى ملأ من الناس، الأمر الذي يولد لديه شعوراً يهدد مستقبلة فيشرع تحت تأثير هذه الحالة للثأر لكرامته المنهارة. والواقع أن الغريزة بمثابة المادة الخام التي تصنع لكي ترتدي ثوب الغضب.. فغريزة الغضب ليست هي الغضب نفسه، بل هي الاستعداد للتجسد في الأشكال السلوكية للغضب.. فنحن لا نغضب بواسطة غريزة الغضب، بل نغضب بملامح الوجه، وبما نصدره من أصوات عالية، وبما نستخدمه من عنف بالأيدي والأرجل. ونخلص إلى القول إنه نظراً لكون الغضب غريزة مكتسبة لدى الإنسان، فإنه ليس في الإمكان القضاء عليها بسهولة بمجرد التربية والتدريب، لأن ما يكتسبه النوع البشرى خلال آلاف السنين لا يسهل اقتلاعه بجهد فرد أو مجموعة، ولا حتى بجهد أجيال متعاقبة، لأن الغضب غريزة متحكمة في السلوك الإنساني بشرية، وتمثل قواما أساسياً وجوهرياً يستحيل الفرار منه، تعتمل بكامل قوتها، إلا أنه بالإمكان الإبقاء عليها في حالة كمون معظم الوقت، حيث يمكن ترويضها وتوجيهها، فالغريزة ديكتاتور قابل للإقناع والتفاوض من أجل البقاء في حالة من الهدوء والسكون. ونختم بالتأكيد على إمكانية تصريف الرغبات العدوانية بواسطة مجموعة من البدائل، منها مثلاً، محاولة إهمال الشخص أو الشيء الذي يثير الإحباط، أو ممارسة أنواع من الرياضة القاسية كالمصارعة، أو القيام ببعض الأعمال الشاقة، وغيرها من الأنشطة البديلة عن الأفعال المترتبة على السلوك العدواني. [email protected]