عادة، عندما تنتهك سيادة الأوطان، يبرز قادة وطنيون يستبسلون في الدفاع عنها.. وتلتف حولهم الجماهير، ويلهبهم حماساً للدفاع عن الوطن وسيادته وسلامة شعبه ومقدراته.. وتهب قواته الباسلة للدفاع المستميت، وتصيب المعتدين بمقتل.. إلا في الحالة اليمنية، اكتشفنا أننا فقدناهم.. ولا تعويل على ما تبقى من قواتنا الباسلة.. فهي منشغلة بتصفية خلافات السياسيين داخلياً.. وكأن ما يحدث لا يعني أحداً!.. ونواجه العاصفة بالدعاء منفردين.. أحد الأصدقاء الأعزاء أضاف، قائلاً: نعم اكتشفنا سبباً إضافياً مهماً لتخلف الشعب اليمني يتمثل في طريقة التفكير العقيمة والمتخلفة المتبعة لدى فصائل وأحزاب المعارضة السياسية بكل ألوانها الفكرية.. وبدوره يبوح صديق آخر بالقول: أنا افتقدت الأمل بقيادة وطنية للجيش تنقذ البلاد، حينما أصبح ألعوبة يتحكم به أفراد.. وبعدما وجه ما يسمى الجيش حممه بأمر منهم نحو الشعب.. وافتقدت الأمل بما يُسمى قوى الحداثة أفرادًا وأحزابًا حينما انجرّت وراء أحقادها القديمة وتوزع الموت في كل حدب وصوب.. وتركت أمر الوطن. ومن جانب آخر تتفاخر الشعوب والأمم بقدرتها الفائقة على الدفاع عن سيادتها الوطنية.. وإيمانها العميق بوحدتها الاجتماعية.. وسلوكها الواعي، الحر، والديمقراطي.. وسهرها على تفوقها وتقدمها الاجتماعي.. ونحن.. وهذا الحال الذي لم يفرض علينا، وإنما فرضناه على بلادنا وأنفسنا بخلافاتنا التي وصلت إلى الحد الذي أصبحنا فيه عاملاً من عوامل الهدم والتدمير لهويتنا وشعبنا والوطن.. فبِمَ نزهو اليوم؟! هل نزهو بقدرتنا الفائقة على قتل بعضنا؟!أم بقدرتنا على هدم سقف بيتنا على رؤوسنا؟! أم بتمكننا من خرق أرضية سفينتنا؟! فهل (نيرون) حاضر بيننا بقوة فكراً وعملاً؟ ومن الأمور التي تبعث على الحيرة.. وتستدعي التأمل والوقوف باندهاش.. هو النشاط الطوعي الموازي للنشاط الرسمي في حماية المواطنين، وتقديم النصح والإرشاد.. فقد جرت العادة في الحروب والنزاعات المسلحة أن تتوافد المنظمات غير الحكومية المعنية بالعمل في هذه الظروف، وتتسابق من أجل تقديم خدماتها الإرشادية، وتنديدها بالعدوان على السكان وأماكن تجمعاتهم.. وتتفانى السلطات في تقديم الخدمات الصحية والنصحية، وتوعية المواطنين بطرق وأساليب التعاطي مع الحياة اليومية، والقيام بتوفير كل تدابير السلامة، لتقليل حجم الأضرار بين صفوف السكان.. إلا في بلادنا.. لم نسمع عن أنشطة لمثل هذه المنظمات إلا نادراً.. ولكنها تتواجد في أوقات السلم وتتسابق لكسب ثقة الداعمين بهدف الحصول على أكبر قدر من الدعم المالي والمؤسسي مقابل قيامها ببعض الأنشطة الوهمية.. ولكنها تختفي وقت الحاجة الماسة لخدماتها, وكذلك الأمر بالنسبة للمؤسسات الرسمية!!!.. ربما أنني لم استغرب لمعرفتي بالكثير منها، ولكنني مندهش لغياب الحس الإنساني، حتى ولو تبدو وكأنها تتظاهر به. وفي الختام نتساءل: كيف يتحول ضحايا التعذيب بالأمس، إلى جلادين يُمارسون التعذيب اليوم، وربما بقسوة أشد؟ علم النفس الاجتماعي يؤكد أن التشفي والتعذيب يؤثران سلباً على الأداء السياسي.. ويُقدم إجابتين عن هذا السؤال المُعقد.. أولاهما، أن الضحية السابق يحمل في نفسه مرارة وتشوهاً، يجعلانه انتقامياً، لا بالضرورة من جلاده السابق، ولكن أيضاً من أي كائن يقع تحت يده، أو يُصادفه في طريقه.. وهذا ما يبدو من واقع شهادات الضحايا. أما الإجابة الثانية على نفس السؤال، فتنطوي على مشاعر التسامي، والنبل، والكرم الإنساني، فالضحية الذي عانى من التنكيل والاضطهاد والتعذيب يرتفع على آلامه الشخصية، ويكون أكثر حرصاً على تحاشي الدور البشع لجلاديه السابقين مع ضحايا آخرين، حتى حينما يكون قادراً على الإيذاء. وفي سياق آخر يؤكد علماء الاجتماع أن من كان في موقع الضحية (مسلوب الإرادة والحرية والحقوق) بإمكانه أن يتحول إلى جلاد، تحت منطق الثأر وغياب الثقافة المدنية وهشاشتها.. وبالتالي تصبح الحريات مهددة في سياق الانتقال الديمقراطي، وعدم استقرار السلطة، وتعثر المجتمع المدني واختراقه حزبياً. كما أن ثقافة الاستبداد بقدر ما تعطل مقدرة المجتمع على الخروج من شرنقة الأدوار الدموية بين وجه الضحية والجلاد.. فهي أيضاً تشوه ملامح الإنسان هنا إلى درجة الفقد.. وعندما تضيع تلك الملامح لا يعد ثمة قدرة على اكتشاف طرق أكثر إنسانية وأقرب لمعنى الحياة. أكاد أنفجر غيظاً وقهراً.. ورب الكعبة. لك الله يا يمن.