حين مررت ببطحاء العمال كان السواد الأعظم منهم من الأطفال الذين لا يتجاوز في معظمهم العشر سنوات ، وكل واحد منهم تحمل ملامحه الهموم ، وحاولت أن أقترب منهم لأسمع آهاتهم وأناتهم ، ومشاكلهم الثقيلة ، لكن تركيزهم كان منصباً في وجوه المارة لعل أحدهم سوف يأخذهم للعمل لديه ، وعندما هممت أن ألقي بعض الأسئلة على أحدهم هب الجميع مندفعين بقوة نحوي معتقدين أنني أبحث عن عمال، وعندما أفهمتهم مقصدي خرجت منهم بالحصيلة التالية : الحياة قاسية الطفل محمد عبدالواحد علي اندفع قائلاً : لقد سافرت من قريتي البعيدة من أجل أن أعمل واشقي على أسرتي ، فوالدي مريض ، والبيت مليء بالأطفال ، وليس لديهم سواي من عائل لهم ، ومع هذا لابد أن أعمل كل يوم ، وأكد وأتعب من أجل توفير لقمة العيش ، وأضاف محزوناً : إنني اليوم وفي كثير من الأحيان لا تتوفر لدي حتى قيمة الطعام ، لكن ماذا يجب أن أعمله ، فالحياة بطبيعتها أضحت قاسية ولابد أن ننتصر عليها ، واختتم حديثه متحسراً : الله يعيننا على الحياة الباقية. العمل أفضل من السرقة الطفل فكري أحمد عبده مهدي الذي يعمل في استريو أشرطة صغيرة ، عمره لا يتجاوز التسع سنوات كانت همومه الخاصة التي ابتدأها بقوله : أنا الصغير هذا أعيل اثني عشر فرداً من أسرتي ، ولي سنتان وأنا أعمل في هذا الاستريو ، وأرسل إلى الأهل في الشهر الواحد عشرة آلاف ريال ، وأحياناً أقل ، وأضاف في سياق حديثه : لقد جئت من العدين بمحافظة إب لأننا لا نملك أراضي أو حقول تدر علينا بالرزق ، زد على ذلك أن معظم أفراد قريتي الصغار والكبار يعملون ، والعمل كما تعلم أفضل من السرقة ، واختتم حديثه بالقول: الدنيا مليئة بالمخاطر ، وكم من المرات التي صادفت فيها الكثير من الناس السيئين والمنحرفين ، لكن الحمد لله حاولت جاهداً أن أتجنبهم ، والآن الشغل في الاستريو ماشي تمام والحمد لله على كل حال. تعرض للابتزاز في مدينة عتق وبالتحديد في أطرافها الصحراوية التقيت بطفل يبيع أيسكريم رفض ذكر اسمه ، وابتدأ حديثه متأوهاً : هل تصدق بأنني قد سافرت تهريباً إلى المملكة العربية ، وظللت أكد وأشقى وفي نهاية المطاف أخذتني الشرطة وطارت الفلوس التي جمعتها ، ثم زفرت إلى اليمن ، وعدت مرات عديدة تعرضت فيها للضمأ والجوع إلى درجة الموت ، بل والتقطع احياناً ،وهناك الكثير من أصدقائي الذين أخذهم المهربون وشغلوهم لحسابهم في الأشياء الممنوعة ، ودفع البعض حياته ثمناً لذلك ، وأضاف وسوء التغذية بادياً على سيمائه : في المرة الأخيرة كنت سأتعرض للإنتهاك لو لا لطف الله ومجئ الشرطة السعودية في الوقت المناسب ، ومن تلك اللحظة قررت أن أبقى في بلدي وأكل التراب ، لأن عزة الإنسان بلاده ، واختتم حديثه شبه باكي : أبلغ من العمر أربعة عشر عاماً ، لكنني اتخيل أنني قد عشت مائة عام ، فالعناء والشقاء ينضج التفكير قبل الأوان ، ويقتل الأحلام الطفولية في مهدها ، وإنني أحمل السبب على الوالدين لأنهم لا يفقهون ما معنى تحديد النسل ، إذ أنهم ينجبون الكثير من الأولاد دون حساب للحياة المعيشية وظروفها القاسية. من دلل ابنه ظلمه أما المواطن أحمد مبارك سالم فقد كان له رأيه الخاص به الذي ابتدأه بقوله : أنا أب لثمانية أولاد ، وأعمل عسكرياً في الأمن ، والراتب كما تعلم لا يمكن أن يشبع الأفواه الجائعة ، لذا فلابد للأولاد أن يساعدوني من أجل تدبير لقمة العيش ، وكل واحد يدبر من جانبه ، ولو أن الأولاد ارتكنوا على الراتب لماتوا جوعاً ، لكن الشعار الذي اطبقه فيهم : الذي يعمل يأكل والذي لا يعمل لا يأكل ، وأضاف مفسراً: وإذا لم يتعود أطفالنا على مقارعة الصعاب ، فإن الدلال سوف يميعهم ويجعلهم ينسوا أنفسهم ، وسوف يعيشون حياتهم متكلين على ما نقدمه لهم ، وبذلك لن يطلعوا رجالاً ، والمثل يقول : «من دلل إبنه ظلمه» ، وأختتم حديثه وهو موشك أن ينصرف عني : الفراغ يبعث الملل ، والطفل إذا تعود على العمل ورضعه منذ نعومة أظفاره ، فإنه يعيش في رفاهية بعد أن يكبر ، وكل واحد ينفع نفسه. أسباب كثيرة في إحدى المدارس التقيت بالأخ/ منير محمد حمود عبده ، وسألته عن الأسباب التي تدفع كثيراً من الأطفال لترك دراستهم فأجاب بالقول : هناك عدة أسباب تؤدي بالطلاب الصغار إلى ترك دراستهم منها الظروف المادية التي تمر بها الأسرة ، بالإضافة إلى كثرة عدد أفرادها وعدم الالتزام بتنظيم الأسرة ، مما يؤثر على مستوى دخل الأسرة ، فيعجز الأب عن توفير بعض الحاجات الأساسية والضرورية كالملبس والغذاء والأدوات المدرسية ، فيلجأ الأب إلى تفريغ ابنه للعمل لمساعدته في توفير الحاجات الضرورية للأسرة بشكل عام ، وهناك أطفال ذوي مستويات معيشية جيدة ويضطرون لترك التعليم بسبب جهل الأسرة لأهميته.. وأضاف مستطرداً : هناك اساليب قاسية يستخدمها المدرسون في عقاب تلاميذهم ، مما يضطر الطالب إلى ترك المدرسة والهروب من العقاب ، مع العلم أن أصدقاء السوء الذين ينتشرون بشكل كبير هذه الأيام يحببون للطفل الفلوس ، وايهامه بأن المدرسة ليست إلاّ خسارة فقط ، ولو أن هناك حملة توعوية وندوات للأسرة بأهمية التعليم ، بالإضافة إلى إقامة النشاطات الثقافية والرياضية التي تحبب الطفل بالمدرسة ، وتربطه بالتعليم ربطاً موثقاً ، واختتم حديثه بالقول : أتمنى من الدولة تكثيف الجهود التوعوية في مجال تنظيم الأسرة ، وما يمثله من دور في التخفيف من الأعباء الملقاة على كاهل رب الأسرة ، بحيث يستطيع توفير الحاجات الضرورية بسهولة ويسر. الحرف الكثيرة تنجي من الفقر عائد علي سعد يعمل بعناء في محل بنشر ، فابتسم برقة قائلاً : لقد أصبحت أتقن كل شيء ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «إكثر من الحرف تنجو من الفقر» والحمد لله أنا متعلم .. لأغلب الأشياء الهندسية كتركيب مكائن السيارات وفكها ، وليس أمام المتعلم من أمور عسيرة ، والحاجة كما قيل تصنع الإبداع. في الختام الحياة المريرة خنقت الطفولة ، والبحث عن لقمة العيش خير من الموت جوعاً ، وإذا كان لكل هؤلاء الأطفال ذكريات فإنها ستكون مصبوغة بالهموم والآلام والمعاناة.