عندما كنا ندرس في القاهرة سرى حديث عن طالب قيل يومها أنه يحصل على المرتبة الأولى في كليته وأنه بالغ الذكاء ومثابر إلى حد كبير وأن واحدة من زميلاته تعلقت به بسبب اعجابها بذكائه وطموحه ومثابرته فكان يساعدها في دروسها ويرتب لها محاضراتها ويذاكران معاً في بيتها فكانت هي أيضاً تتفوق بمساعدته لها ، واستمرت هذه العلاقة من السنة الأولى حتى سنة التخرج وعندما ظهرت نتيجة الامتحان سارع إلى بيت أسرتها ليشاطرهم فرحته بتخرجه بتفوق وبتخرج زميلته التي أحبها من أعماق قلبه كما سمعنا حينها. كانت الأسرة قد علمت بنجاح ابنتها ففتح له الباب أبو الفتاة الذي استقبله خارج البيت وببرود شديد طلب منه الأ يعود مرة أخرى لزيارتهم وألا يحاول الاتصال بابنته ابداً فبانتهاء علاقة الدراسة يجب أن تنتهي كل علاقة وبأدب متصنع طرده إلى غير رجعة. لم يكن ماحدث يدور في حسبانه فصدم صدمة أدت به إلى الجنون وتم ترحيله إلى اليمن تاركاً وراءه كل حياته السابقة وكأنها كانت مجرد حلم فاق منه ليكتشف أنه يحيا في فراغ يشبه الكذبة السمجة. هذا ما تناهى إلى مسامعنا عندما كنا طلاباً في القاهرة المحروسة وانتهت القصة بالنسبة لي مثلما تنتهي أية شائعة لاتلبث أن تظهر حتى تخبو ويواريها النسيان. عدت بعدها بسنوات إلى تعز وعملت في المستشفى العسكري طبيباً مجنداً وكنا مجموعة من الأطباء القدامى والجدد نجلس في مقهى مقابلاً للمستشفى نشرب شاي الصباح عندما أطل علينا إنسان لم يكن قد وصل كما أعتقد إلى الأربعين ولكن قد خطه الشيب وكان نحيلاً جداً وملابسه متسخة ومهملة فالجاكت كبير جداً على حجمه وبنطاله معلق إلى خصره يمنعه من السقوط حزام مهترئ ويلبس حذاءً صينياً وكانت أظافره طويلة ومتسخة بشكل ملفت ولم يكن يتحدث لأحد ، جلس على أحد الكراسي وطلب له مدير المستشفى كوباً من الشاي وساندويتشاً ودخن سيجارة وقام ذاهباً لايلوي على شيء ولم يلتفت حتى ليشكر مضيفه. اخبرني مدير المستشفى أنه كان يدرس في القاهرة وأحب زميلة دراسته وساعدها حتى انتهيا من الجامعة وعندما ذهب ليهنئ الأسرة استقبله الأب وطلب منه ألا يعود فجن من هول الصدمة وسافر إلى اليمن وأنهم منذ سنوات بعيدة لايعرفونه إلا على تلك الحال ، وقال لي المدير إنه في بعض الأحيان عندما يشتد به الجوع يذهب إلى نفس المقهى أمام المستشفى ويقوم أحد من يعرفونه باستضافته مقدماً له الشاي والشطائر ويطلب منه أن يغني له أغنية ايطالية فهو كان يجيد الايطالية ربما لأنه أقام في بدء حياته في الحبشة ، المهم أنه كان يترنم بأغنية ايطالية وكان صوته على درجة عالية من الجمال والرخامة ، وعندما ينتهي يقوم دون أن يودع أحداً فهو يعتبر أنه قد قدم لمضيفه مقابل ما أكله وشربه أغنية فينصرف لا يلوي على شيء. طلب مني مدير المستشفى مساعدته ولكن ذلك كان متعذراً حينها وحتى لو حاولت فماذا كان بإمكاني عمله من أجله ، أن أخرجه من عالمه الخاص لكي يستفيق على عالم حقيقي بالغ القسوة والجفاف ليس له فيه أي شيء. دارت الأيام وأصبحت لا أراه إلا نادراً وأخبرني الذين يعرفونه أن مسكنه هو تجويف صخرة كبيرة من الصخور التي كانت منتشرة في منطقة صالة ، فيكوم نفسه داخل ذلك التجويف وكأنه جنين في رحم أمه الأرض هكذا كان يقضي حياته لقيمات يسددن رمقه وكوب شاي وسيجارة ثم يهيم على وجهه ومعه عالمه الخاص وأصوات كثيرة تحادثه ويحادثها ثم الإياب إلى الصخرة والبقاء في جوفها نائماً أو مستيقظاً يهذي بكلمات ممزقة غير مفهومة فلم يكن يهمه أن تكون مفهومة فهو لا يوجهها لأحد بذاته ، ويقضي الليل محاطاً بالظلام الدامس والبرد القارس والوحشة التي لاتوحشه. عاد في إحدى الليالي إلى مسكنه وكان الجوع ينشب أظافره في احشائه وبرد تعز القاسي يلهب جسده الضعيف ولم تكن الأسماك التي يرتديها لتقيه شدة البرد ، تألم لأول مرة من الجوع والبرد ولم يعد عالمه الخاص يعينه على تجاهل معاناته تكوم كالجنين وبدأت الأصوات التي تأتي من عالمه الخاص تذوي وتبتعد عنه وحل محلها هينمات كونية كأنها موسيقى حنونة تتدلى إليه من السماء ، وكانت الهينمات تزداد حناناً وحدة ووضوحاً فبدأ يتتبعها ويستجيب لها وبدأ يرى أن ما يدور حوله أو بداخله أصبح فجأة أجمل وأوضح وادعى للانتباه ، بدأ البرد القاسي يختفي من أطرافه وانحسر شعوره المؤلم بالجوع ولم يعد يشغله إلا تتبع الحالة القادمة إليه من السماء وخاف أن تنقطع عنه قبل أن تصل به إلى منتهاها ، وخامره شوق عارم ورغبة شديدة في مواصلة الرحلة وكأنها رحلة عودة إلى الأمام الأبدي والمكان الذي لاجوع فيه ولا برد. بدأت الحياة تنطفئ في أطرافه ويبدو أن ما شاهده قد أسعده فلم يبق من تعابير وجهه إلا ابتسامة غطت وجهه ونظرة شوق ارتسمت على عينيه اللتين أطفأهما الموت ، وهكذا مات هذا الإنسان البائس وكأنه جنين في رحم أمه الأرض لينتقل إلى الرحاب الأوسع والحياة التي لانهاية لها. الرضا والنور والصبايا الحور والهوى يدور آن للغريب يومه القريب عهده العتيق أول الطريق والمنى قطوف أن يرى حماه شاطئ الحياة واحة النجاة هو منتهاه في السما تطوف انقروا الدفوف.