ليس ثمة انطلاق من الوظيفة الاستنساخية للغة التي نقبلها موروثاً ولا نملك إدراكاً حقيقياً لما تحمله من مضامين تاريخية مشحونة بالأتعال في الزمن الذي أوجد ثمة معنى متداولاً وشائعاً وخلق مفاهيم متعارفة نسير على ضوئها ونفكر من خلالها دونما امتلاك حيوي للمصدر ((اللغة)) أو استيعابها من أجل تكوينها حداثيا. بإطلاق طاقاتها المشحونة بالتوتر والانفعال والتفكير من الموقع المتوارث إلى موقع آخر نحن نبنيه ونختبره ونزيحه لنعيد بناءه بلغة فيها خصوصيتنا وحضورنا اللامكرر. من هذا الامتلاك الصارخ في وجه الماضي والباحث عن زمنه وقراءة إبداعه.. ينبغي أن نثور الفكر نخلصه من العالق فيه بفعل لغة جرى استخدامها قروناً. ولا تزال في حاضرها قابعة في الاستخدام الشائع. أو لنقل الحرفي الذي يأتي ثمرة التباس معرفي بين السابق، واللاحق وسيطرة المتقدم على المتأخر.. وفي المتقدم الكثير من الخلط والإبهام ((والبثولوجيا)) التي تفعل فينا سطوتها فلا نتقدم إلا في المعنى القداسي للغة. الذي يجبرنا على الاقتناع بالتميمة والفخر والاعتزاز والهجاء أحياناً.. وأية غلة ما يزال الماضي يربض فيها بشدة لا يمكن أن يكون استخدامها إلا ي ذات الدوران.. هذا الدوران الذي يمثل المركز فيه ((اللغة)) بؤرة محتوى الذاكرة فينا التي تنهق للبكاء في وقت متأخر على الدوام إن نهضت.. نحن بهذا لا نقطع ماضوية اللغة ولا نسخر من موروثنا ولا نعيب إبداع الأوائل العظام الذين كانت لهم اجتهادات غير عادية في بحوثهم اللغوية وتأصيل مفاهيمها وغربلة محتواها. لتعزيز قوة مفرداتها وتنقيحها وضبطها نحوياً وحرفياً. هذا الضبط الذي سعى إلى العلمية وأنتج مفهومه في ذات زمن ليعبّر عن وجوده واقتداره في الخلق والإبداع، الذي نشير إليه كموجود حقق وجوده وفرادته ومنح الذي يليه موروثاً يمكنه من الاتصال المؤسسي لفكر لابد أن يتنامى، ليحقق بإمكانياته وجوده دونما اجترار وتقليد وغياب إبداعي وتفكير مؤطر في حدود النقل وغياب العقل وذلك ما نراه واقعاً مادياً ملموساً في لغتنا التي ما تزال بشوائبها تحجب عنها التطلع إلى الأمام. وتجعلنا أسى لفوضى وشتات الفكر؛ لغياب القدرة على معرفة الأساس وتقبلنا له بقناعة ورضا ويسر.. ذلك ما يحد من الطاقة الإنسانية ولا يجعل للإبداع منتفاً باعتبارنا نعين مفهوماً لغوياً ماضوياً ونعجز عن إحداث خلخلة في نسق بنائها وطرحها للبحث والتجربة ودراسة تطور مدلولها. وما نلمسه من فرانج حداثوي. وحداثة شكلية لا تملك تطوراً فكرياً يوضح إلى أي مدى نحن نعيش ((الخبل)) الثقافي ونقبل المدلول المتواتر للغة كما هي.. الأمر الذي يجعل من القصيدة مثلاً في أشد الحالات تكثيفاً، مبتورة المعنى مشوهة الصورة لا تنتج حياة ولا تشكل صرخة في العمق المعرفي.. لذلك نقبلها بإحساس باهت يزيدها إثبات حداثة متخلفة كونها استخدام ماضوي ولأن التنسيق البنائي لها شكلاني يتنافى مع معالم تطورها مع المضمون الجمالي للقصيدة وللقيمة الإبداعية التي يفرض إنتاجها تفكيراً آخر باللغة وفي اللغة من أجل الإنسان المدرك للمفارقة الزمنية بين الماضي كمؤشر مادي ملموس والواقع بكل مافيه من إرهاصات مادية يمكن أن تشكل بوادر حداثة إذا ما وجدت علاقة ((ابستمولوجية)) بين الذات والوجود واستطاع الاستخدام اللغوي. أن يقدّم خطابه المعاصر في العصر الذي يعيشه وبامتلاك حقيقي لمفهوم اللغة وتطور مدلولاتها هذا يعني أنه لابد من إحداث تمفصلات زمنية. ضمن شروط الحداثة المتأسسة في الواقع. وضمن رؤية فكرية لها امتازت عن المتقدم في كونها تريد امتلاك المستقبل الذي يعنيها.. غياب السابق إذاً ليس إنكاراً له ولكنه امتداد حيوي خلاق. جوهرة الإنسان الذي يفصل الزمن، وحقق إرادته في كشف معالم الطريق الذي يريد. والإرادة الإنسانية هي في الأول تذكر ولكنه مشروط بتخيل ليأتي النتاج الإبداعي مفارقة عن السابق يحقق الفرادة.. ومأساة الإبداع لدينا أنه لا يملك ذكراه إلا في إطار المتدحرج من الماضي المقطوع عن المستقبل. أو في التعامل الشكلاني للحداثة المستوردة.. وبغياب امتلاك شروط العصر وإنجاز المشروع الثقافي المتسق في خطاه مع الإمكانات والطموح. سنظل أسرى هذا التفكير المحبط.. نقدم الحداثة بإبداع رخيص لها زبانيتها وهو ما يقود إلى المزيد من تردي الإنسان فنياً وجاهزية الماضي المستورد كإبداع ننساق إليه، وفيه مداراة للنقص وعجز عن الكشف وتعبير عن الغلط الذي نركن إليه ولا نراه. لكننا نمارسه بإرادة باهتة وتفكير متخلف وبين لغة العقل ولغة النقل ثمة إنسان يحب أن يحقق انتماءه. أن يختبر ويزيح ويبني وأن يكون علاقة صحيحة بالواقع، وأن يمنح شروط بنائه فاعلية وجوده في إدراكه الزمن. هذا الإدراك الذي لا يمكن أن يكون انقطاعاً بقدر ما هو إعادة لحمة الإبداع. ورهان على الإنسان الذي يغيب عن وجوده بفعل علاقة اغتراب بين ذاته وذواته وبين ذاته وماضيه وبين ذاته وواقعه.. ومن يفقد علاقة الانتماء الثقافي وطرح رؤاه النقدية وتقديم خطابه الإبداعي. إنما هو في الأخير يعيش حالة اغتراب وانفصال عن الوجود أو هو حاشية عن أصل قديم.. والحداثة مبنى ومعنى قيمة إنتاجية تتحقق في الإبداع فماذا نمتلك في هذا السياق؟.. ما هو مشروعنا الثقافي الذي يمكن أن نتقدم به خطوة للأمام دونما ارتجال؟ وتدبر للغة باستهلاكها التي نعول عليها في إعادة تشكيل البناء الفكري الثقافي للإنسان المعاصر الذي يعيش عصر الحداثة الملتف عليه دون أن يدري لاستهلاكه وقبوله الماضي والمستورد على السواء. ولأنه لا يحتج ولا يصرخ ولا يزيح معوقات التقدم. ولأنه يقبل بالتفكير الساذج ويستخدم لذلك لغة الموتى أو تفكيرهم ويريد التواصل مع الحداثة التي تقدم نفسها إليه بفعل شروط الحضارة الراهنة، في شكل سلع استهلاكية ومقولات يبنى عليها خطاب ثقافي. وهو خطاب في الأساس وهمي لأنه مبني على السكون والقابلية والقناعة. ولأن شروطاً في مجملها نفتقدها وعياً وممارسة.. لذلك هي قوالب جاهزة ((دغمائية)) قمعية تمنهج الرؤية في الغلط.. ونحن لا نريد لهذا التكون أن يستمر. ومن هذا المنطلق لابد أن نقدم رؤيتنا الموضوعية في الحياة وأن نسأل. كيف نغامر من أجل المستقبل؟ ما الذي يمكننا أن نمنح زمننا من إضاءة لنرى ذاوتنا فيه؟ كيف لنا أن نحقق ما نريده بعيداً عن الانفعال؟ وما الذي يمكننا المراهنة عليه؟ وأين نجده؟ هل في التراث؟ كيف نحقق معاصرته؟ كيف نتقدم ثقافياً وجعجعة الماضي لا ترينا طحنا وحداثة المستورد لا تلبي رغبتنا؟ إننا بين فكي كماشة والطريق مجهد وشاق وعلينا تقع مسئولية تحقيق ما نتوق إليه... من هذا المستوى أدعو مخلصاً إلى إقامة حوار ثقافي وخطاب نقدي جاد لا يقيم وزناً للعارض الباهت وينكر الدخيل تماماً.. يضع المفتوح الثقافي أمام المحك العملي ويقيم معه علاقة ارتيابية تهدف إلى البحث عن القيمة الإبداعية. وإيجادها بمستوى خلاق. من هذا الموقع وحده يبدو لكم الثقافي بحاجة إلى غربلة وتمحيص إلى اقتراب حميمي مع المعرفة وإيجاد قناة حداثوية متفتحة مع اللغة التي ما تزال تعاقر نفسها وتتقياء تاريخها بخطاب فاقد الحيوية. يقدم نفسه إلى الضياع ويجر الإبداع إلى مستوى الضمور. ليظهر الطافح من التنابلة وغوغاء المبدعين.. إن علينا الإدراك بالتحولات المهمة التي طرأت على الفكر المعاصر وإن ثمة تكنولوجيا تساير وتطور الإبداع فهناك الدراسات الصوتية وعلم ((السيبرنطيقيا)) وهما علمان يحققان كشفاً متواصلاً في دراسة التفكير الإنساني للوصول إلى خطاب قصدي مؤثر يتحكم في إرساله من يمتلك الحداثة فكراً ومادة على هذا الأساس نرى إلى الواقع وما ينبت فيه من آسن أنه نتاج بنية فكرية متخلفة. وأن ثمة خللاً في الخطاب الثقافي لا يتسق مع نمط الحداثة الصحيح التي نريدها لذلك يأتي إلى هذه الساحة أدعياء الثقافة بضمير مأزوم وطريق غير سوي وبلغة الذي يريدون تواجده ليشكل إعاقه وبلغة إتهامية لم تعمل الذهن بثقة.. وإزاء هذه التوليفة التي تقيم حلفاً مع الجهل لابد من التفكير الخلاق والحضور القوي الذي يحاصر السلبي من أن ينمو ويتكاثر ويصير هو المرجعية ثانية ليشتد التخلف بأكثر مما هو عليه وتلك أزمة لابد من الوقوف أمامها وتحمل مسئولية ما ينادينا به الضمير الإبداعي والفكري من أجل المستقبل الذي نتوق إليه ونؤمن به جميعاً وحتى لا يكون الأدعياء قد اقتربوا في أحلامهم من التشويه الثقافي الذي نعتد به ونقيم له وزناً ونخلص له عبر الدراسات والبحوث والفهم الصحيح لموروثنا المعرفي الذي لابد أن نأتيه ونضيف عليه بإدراك ووعي دونما أحكام جاهزة ومضاربة كلامية تجر ما هو إبداعي إلى مواقع لا ينبغي أن يكون فيها أو ينزلق إليها..