عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يمن ماقبل الثورة.. مآس بالجملة ومشانق بالمجان
سعى لإخماد أنفاسها أكثر من قاتل محترف
نشر في الجمهورية يوم 27 - 09 - 2007

احمد سيف مغلس: أن تعيش الألم غير أن تتحدث عنه.. وأن تتذوق مرارة الظلم غير ان تصف ذلك للآخرين.. فما بالك حين يكون هذا الالم بحجم شعب ويكون هذا الظلم بمساحة وطن.. بالتأكيد سيكون حديث من هذا النوع أشبه بمحاولة البحث عن إبرة ضائعة في كومة من القش ومع ذلك لا بأس من المحاولة وبخاصة إن الغوص في ظلمات الواقع الرهيب ليمن ما قبل الثورة هو من باب إحقاق الحق وإعادة ترتيب الذات والسفر عبر زمنين كل منهما يرتبط بالآخر وكل منهما يتناقض مع الآخر.بين سيفين قاطعين
لنحط رحالنا بادئ الأمر عند اللحظة التي اكتشف فيها اليمن أنه مشنوق من رقبته ومحاصر بين سيفين كل منهما أمضى من صاحبه وكل منهما أخطر من الآخر ففي الشمال كان بيت حميد الدين يعيث في الأرض فساداً ويملؤها ظلماً وعدواناً وفي الجنوب كان هناك الاحتلال البريطاني الذي نهب الخيرات وزرع الفتن والمؤامرات وفرق أبناء الوطن الواحد شيعاً وأحزاباً «كل حزب بما لديهم فرحون» .. الوطن شماله وجنوبه كان جرحين كبيرين نازفين وكانت الأيام تتوالى فتتعاظم المصيبة وتتسع مساحة الحزن والألم.. جثة الوطن الكريم كانت تتمرغ في تراب الذل وتتدحرج عند اقدام الجلادين ومع كل صرخة ألم كان هناك موقف يتشكل وفجر على وشك أن يولد.
قمة الاستبداد
صورة اليمن قبل قيام الثورة المباركة «سبتمبر وأكتوبر صورة سوداوية للغاية مليئة بالظلم والاستبداد والاستعباد حيث كان النظام الإمامي هو ظل الله على الأرض ولكن ادعاءً أو كذباً وكان المشائخ والسلاطين يفعلون بالناس ما يشاءون دون حسيب أو رقيب وما يجعل الصورة تتضح أكثر وأكثر مقالة وردت في صحيفة الثورة وفي عددها الخامس وكاتب هذه المقالة بعنوان «ثورة اليمن للحقيقة والتاريخ» للكاتب/أحمد جابر تناول فيها بالحقائق الجرائم البشعة التي ارتكبها النظام الإمامي ضد الشعب اليمني بكل فئاته ومما جاء فيها :«لقد كان حكم بيت حميد الدين حكماً رهيباً فضيعاً أصبحت اليمن في وضع لا مثيل له، فالإمام مصدر كل السلطات التنفيذية العليا، أمره من أمر الله، وحكمه لا مرد له، جعل من الجيش أداة لجمع الضرائب التي ملأ بها خزانته وضرب كل قبيلة بالأخرى وزج بكل من يفتح فمه السجون، وفتح القبور ليدفن فيها كل من تسول له نفسه حتى أن يسأل الإمام مجرد سؤال عادل» ويمضي كاتب المقالة إلى القول: لم يكن هناك شيء اسمه مال الامة وانما كان هناك شيء يسمى خزائن الإمام التي يحتفظ بمفاتيحها في جيبه، وكان الجندي سلاحاً مسلطاً على المواطن وكان المواطن سلاحاً مسلطاً على الجندي وكان الإمام فوق كل ذلك سلاحاً مسلطاً على الجميع.
معتقلات مملوءة بالأبرباء
المعتقلات إبان العهد الإمامي كانت مملوءة بالأبرياء وكانت المشانق منصوبة في الميادين ولايزال «الوشاح بسيفه المصلط على رقاب المناضلين والأحرار هو رمز ظلم وطغيان وجبروت العهد البائد ومن يقرأ مذكرات كبار مناضلي الثورة عن سجن حجة وما كانوا يعانون فيه من مآسٍ وآلام يدرك كم كان ذلك الزمن مراً وكم كان ذلك النظام قاسياً بل يكفي ان نتصور تلك القيود الحديدية التي كانت تكبل أقدام المساجين وأياديهم فيما تلتف سلاسل حديدية على أجسادهم وأعناقهم امعاناً في القهر والظلم ولعل ذلك ما أوحى إلى شاعر الثورة الشهيد/محمد محمود الزبيري بالقول :
إن القيود التي كانت على قدمي
صارت سهاماً من السجان تنتقم»
رمز لسيطرة الاحتلال
السجن التابع للاحتلال الانجليزي في عدن كان هو الآخر رمزاً للقمع لا يختلف عن سجن حجة أو قلعة القاهرة كما كانت حملات المداهمة والاعتقال واطلاق الأعيرة النارية على المتظاهرين وأساليب القتل والاغتيالات كلها وسائل تشي بسياسة الاستعمار البريطاني في قهر اليمنيين وإذلالهم ومصادرة حقوقهم وحرياتهم هذا في مدينة عدن التابعة بشكل كامل للسيطرة الاستعمارية أما ما يتعلق ببقية المحميات والسلطنات التي كانت بريطانيا تديرها عن طريق الباطن فقد كان السلاطين في هذه المناطق لا يختلف وضعهم عن وضع الأسرة المالكة في الشمال حيث كان الاستبداد هو القاسم المشترك بين الجميع.
اعتقله السلطان وأمر بجلده
هناك قصة واقعية حدثت منذ زمن وتعكس صورة هذا القاسم المشترك الذي تحدثنا عنه فبحسب ما أخبرني المؤلف والمخرج المسرحي محمد مصطفى كردي فإنه وخلال فترة حكم السلطان علي عبدالكريم سلطان «لحج» حدث أن نشر الصحفي فضل غودل مقالة هاجم فيها سياسة السلطان علي عبدالكريم ومحاولاً من خلالها التعبير عن موقف عام وبأسلوب الكاتب الصحفي وعلى الرغم من ان هذا الكاتب كان يرأس صحيفة الشعب الصادرة بموافقة السلطان والتابعة لسياسته في ذات الوقت إلا أن السلطان غضب غضباً شديداً مما ذهب إليه مقال هذا الكاتب واعتبره اعتداءً سافراً على سلطته المطلقة وحقه في ان يفعل ما يشاء ويتصرف كيفما يشاء دون ان يتعرض له أحد بالنقد أو يحاول تعريفه بأخطائه وإسدائه النصيحة والمشورة الحسنة.. يقول الأستاذ/كردي :حاول بن غودل الهرب من بطش السلطان لكن دون جدوى فقد ارسل السلطان من يبحث عنه في كل مكان حتى وجدوه أخيراً وجاءوا به إليه فلما مثل أمامه نظر إليه نظرة ازدراء وبغير ذنب اقترفه أو أي مصوغ قانوني أمر السلطان على الفور بأن يربط بن غودل إلى جذع نخلة ومن ثم أمر بأن يجلد جلداً شديداً ولم يكتفي السلطان بهذا بل أمر العامة المتجمهرين في المكان بأن يبصقوا في وجهه ويرمونه بالحجارة.. بن غودل بحسب الاستاذ/محمد مصطفى كردي يعد أنموذجاً حياً لما كان عليه الواقع الأليم قبل الثورة وما كان قائماً من استبداد وتسلط في المقابل ما كان يصر عليه البعض من رفض لهذه العنجهية كما فعل هذا الكاتب الصحفي الشجاع الذي اتخذ من الصحيفة الناطقة بلسان السلطان وسيلة لقول كلمة الحق والذي لم يكن اكتفى من مقالة بل كان قد سمح قبل ذلك بنشر العديد من المقالات والقصائد اللاذعة.
فتن داخلية
المعروف أن أي نظام سياسي في العالم يسعى بكل ما أوتي من قوة لفرض هيبة وسيادة القانون والاحتكام لوحدة الوطن ومصالحه العليا مع الحرص على تماسك المجتمع بكافة شرائحه وفئاته غير أن ما كان عليه حال نظام بيت حميد الدين يدعو إلى العجب فقد كان هذا النظام حريصاً كل الحرص على تمزيق وحدة الوطن وتحويله إلى قطع وشظايا متعددة وذلك بإثارة النعرات بين القبائل ودفع كل قبيلة لمواجهة الأخرى كما كان يسعى كذلك إلى زيادة هوة الخلاف بين العلماء وأهل الرأي ولا أبلغ على انعدام الثقة بين نظام بيت حميد الدين وبين رجالات ومشائخ اليمن من لجوء النظام الإمامي إلى ما عرف بنظام الرهائن حيث الزم هذ النظام كل شيخ قبيلة تسليم أحد أبنائه أو أحد أقاربه ليبقى رهينة تحت يد النظام يضمن بها ولاء القبائل وعدم خروجها على سلطته ويستخدمها كورقة ضغط في حال حدث أي شيء غير متوقع.. وبجانب ما كان قائم إبان العهد الإمامي من نعرات مذهبية وطائفية وقبلية ومناطقية فإن ثمة شيء آخر كان يزيد الحياة اليمنية تعقيداً هو ما كان قائم من فوارق وامتيازات بين الطبقات والشرائح الاجتماعية فإلى جانب أسرة الإمام كان هناك من يسمون أنفسهم بالسادة هناك المشائخ والقضاة والتجار وفي المقابل هناك «الأخدام» والحلاقون والجزارون والحرفيون والعمال.. هذه التفرقة الغريبة وهذا التصنيف العجيب جعل الأمور تتجه من سيء إلى أسوأ حيث جرى تعطيل قدرات المجتمع وإمكانياته وتسخيرها لصالح فئات معينة وأشخاص محدودين.
سياسة فرق تسد
أدرك الاحتلال البريطاني ان بقاءه في عدن واستمرار سيطرته على جنوب اليمن يعتمد بدرجة أساسية على إبقاء الواقع هناك في حالة تمزق وشتات لذلك تركزت سياسته على قاعدة أساسية وفق مبدأ«فرق تسد» وتحرك كما يؤكد الشيخ/سيف محمد العزيبي، أحد كبار مناضلي حرب التحرير والكفاح المسلح على أكثر من صعيد فالمستعمر البريطاني وبمجرد سيطرته على عدن عمل على توسيع نطاق سيطرته ونفوذه ليمتد بعد ذلك لمسافة تقدر ب112 ألف ميل مربع وتشمل مستعمرة عدن التي تضم الشيخ/عثمان والتواهي والمعلا وعدن الصغرى «البريقة» ومدينة عدن «كريتر» وعدداً من القرى مثل أبو الوادي والشيخ وغيرها بجانب محمية عدن الغربية التي تشمل على سلطنات وإمارات ومشيخات الفضلي العبدلي يافع الصبيحة العقارب الضالع الشعيب الحواشب العواذل دثينة بيحان العوالق .. وكذا محمية عدن الشرقية التي تتكون من سلطنة حضرموت الساحل القعيطي» وسلطنة حضرموت الداخل «الكثيري» وسلطنة بئر علي «الواحدي» وسلطنة فشن وسقرة .. المهرة.. ومشيخة عرقة وخورة.
جهل مطبق
لأن العلم لا يتماشى مع الظلم ولا يتصالح مع الاستبداد فقد كان مجتمع اليمن قبل الثورة يعيش في جهل مطبق وكان ذلك هو ما يريده النظام الامامي والاستعمار البريطاني على وجه التحديد وللتوضيح اكثر فقد كانت الأمية هي السمة السائدة على امتداد ارض اليمن وكان الواحد إذا وصلت إليه رسالة أو وثيقة يريد أن يعرف فحواها كان يلزمه الأمر احياناً الانتقال عبر أكثر من قرية بحثاً عمن يفك الخط.. كما كان هناك جهل معرفي أشار إليه الراحل/عبدالله البردوني في كتابه «اليمن الجمهوري» وبخاصة ما يتعلق بعلاقة العامة بالنظام السياسي الحاكم وبما يتوجب على هذا النظام توفيره للناس وبحق الناس في مواجهة هذا النظام من عدمه وبدل أن يسعى نظام الإمامة إلى ايجاد وعي معرفي متزن ومتناسق اقتصر الأمر لديه على تعويم الفكر ودفعه باتجاه الصراع المذهبي والعقائد والمصلحة الشخصية.. كذلك النظام التعليمي العام الذي كان ينطلق من المساجد والزوايا المعروفة ب«الكتاب» كان نظاماً تعليمياً يكرر نفسه ليس فيه شيء من التجديد والتحديث ويحوي الكثير من أوجه القصور والتناقض .. ولا أدل على عظمة الجهل الذي كان سائداً في اليمن من غياب عادة القراءة والاطلاع إلا عند القلة وفي مجالات محدودة بجانب عدم اقبال اليمنيين وبالشكل المطلوب على قراءة الصحف الصادرة باستثناء ما كان عليه الحال في عدن خلال فترة الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ثم هناك كذلك عدم تفاعل المجتمع اليمني وليس النخبة فقط مع ما كان يعتمل في المنطقة والعالم من علاقات وصراعات فكرية وايدلويجية اضافة إلى عدم اتساع نطاق التعامل مع المخترعات العلمية والمعرفية الحديثة.. إذاعة تلفزيون سينما» غير أن أهم ما يمكن من خلاله الاستدلال على مدى الجهل المطبق الذي كانت ترزح تحت نيره اليمن هو حكاية الشعب مع القطران بعد ان اصدر النظام الإمامي تعميماً لسائر المواطنين بضرورة صب القطران على اجسادهم ليقيهم ذلك شر التعرض لجن الإمام أحمد الذين نشرهم في سائر أرجاء البلاد لحكمة لا يعلمها إلا هو.. وهذه الحكمة لم تكن بطبيعة الحال غير تعميق صورة الجهل وحضوره في المجتمع عبر اطلاق شائعة من هذا النوع يشغل بها أذهان شعبه ويحول بينهم وبين اشراقة الفجر ونوافذ الانعتاق والحرية.
فقر مدقع
في الوطن الذي انطوى في قوقعة التخلف والجهل وأغلق الباب في وجه كل قطرة ضوء يفعل نظاماً رجعياً لا يعرف من السلطة غير التسلط ومن الدين غير الإمامة والعمامة ومن الاقتصاد غير فرض الضرائب والجبايات.. في وطن من هذا النوع لا غرابة ان يبلغ الفقر معدلات قياسية ويصل الأمر بالمواطن العادي أن يبقى ليوم أو يومين دون طعام بل ربما أن يموت البعض من شدة الجوع.. لن أحاول هنا ان استدل بآراء بعض المناضلين أو بعض الباحثين والكتاب بل سأحاول ان اتذكر بعض حكايات كانت جدتي يرحمها الله قد حكتها لي عن ذلك الزمن الغابر الذي لم يكن ينام فيه شبعاناً غير الإمام وحاشيته وغير المشائخ والسلاطين وعلية القوم أما السواد الأعظم فكان حالهم لايسر عدواً ولا حبيباً .. قالت لي جدتي :إن بعض سكان القرى كانوا إذا أرادوا ان يطبخوا طعاماً فاخراً كانوا ينتظرون إلى وقت متأخر من الليل ويطفئون الانوار ومن يقومون بانضاج الطعام كل ذلك مخافة ان يحركوا مشاعر الجائعين ممن لم يجدوا في منازلهم شيئاً.. كما حدثتني جدتي عن عام الجوع وما أحدثه في الناس من ويلات ومآسي وأغلب الظن ان ما دعته جدتي بعام الجوع وصار عند البعض تقويماً زمنياً يستدلون به على بعض الأحداث كأن يقول الواحد منهم: فلان ولد في سنة الجوع وفلانة تزوجت بعد سنة الجوع لم يكن غير جزء من موجة مجاعة اجتاحت المنطقة بأكملها في أثناء الحرب العالمية الأولى.. جدتي كذلك اخبرتني ان بعض المشائخ وكبار الاقطاعيين كانوا يستغلون جوع العامة فيجبرونهم على بيع أراضيهم الزراعية وممتلكاتهم ومواشيهم مقابل وجبة غداء واحدة قد تكون «دست عصيد» لا أكثر لكن هذه اللقيمات كانت كفيلة بأن تمنع الواحد منهم من ان يسقط من شدة الجوع.
إفقار وتجويع
هكذا كان الوضع إذاً قبل الثورة فقراً وعوزاً شديدين ولنا ان نتخيل ما يمكن ان ينتج عنهما من خلافات ومشاكل وجرائم اجتماعية بجانب بروز ظواهر عديدة كالسرقة وقطع الطرق وأعمال السلب والنهب وارتفاع معدلات البطالة وضعف القوى الشرائية وغياب المنشآت والاستثمارات وانعدام الادخار وغير ذلك من الجوانب الملازمة لتدني المستوى الاقتصادي المعيشي ومع ذلك لم يكن بوسع النظام الإمامي والمشائخ والسلاطين وأذناب الاستعمار غير المضي في طريق اذلال الشعب وتجويعه نزولاً عند قول القائل: «جوع كلبك يتبعك» وبحسب ما ذهبت إليه الكاتبة السياسية فاطمة محمد بن محمد في ورقة عمل لها بعنوان «دور المرأة في الكفاح المسلح في الريف» فإن سياسة الإفقار والتجويع التي اتبعها الحكم الأميري في جنوب الوطن تجاه من كان يسميهم بالرعية بفرض الزكاة المقدرة والضرائب الباهظة والمصادرة وإحراق المزارع وفرض اجراءات عقابية ضد من كانوا يسمون بالمناوئين أو بالمخربين كل ذلك أدى إلى دفع باتجاه الثورة على ذلك الواقع الظالم وغير المنطقي البتة.. ومما يذكر هنا أنه وفي عام 1944م وحينما بدأت المانيا النازية تتلقى الهزائم وكان أمير الضالع حينها الأمير/حيدرة بن ناصر بن علي شايف مؤيد لألمانيا وخوفاً من ان تقوم بريطانيا بالانتقام منه وسلبه السلطة أمر بالتبرع لصالح الحلفاء دعماً باسم إمارة الضالع وفرض على كل مواطن قرشين «فرنص» مما اضطر إلى بيع اضحيات العيد حتى إن إذاعة «برلين» أذاعت الخبر متهكمة بأن الرايخ قد اهتز من تبرعات أمير الضالع وتعجب مواطنوها كيف ان الأمير/حيدرة سلم التبرعات ولم يصادرها.
مآسٍ في كل بيت
في كتابه مذكرات مواطن يتحدث الكاتب/أحمد محسن سلام عن احوال وأوضاع الأسرة اليمنية قبل اندلاع الثورة بالقول :إن اليمنيين كانوا يعيشون حياة متعبة للغاية ولقد كانت وجباتهم الغذائية التي كانوا يتناولونها وهي رئيسة تخلو من أية استثناءات ومع انها رئيسة فهي خفيفة وشحيحة وتحتوي على نوع واحد فقط «العصيد» مسبوغة باللبن أو الحقين وربما احياناً بالماء والبسباس» وهي تتكرر يومياً ونادراً ما يخبزون الفطير وان خبزوه يبقى قطعة لإسعاف أولي لطفل باكٍ أو ضيف قادم المهم انهم امتازوا بالبساطة وقلة ما باليد حيث ان الحياة كانت قاسية وتدعو الاعتصار معها والمضي قدماً لأعداء الأرض الزراعية وزهد المواسم الفصلية التي تمر تباعاً مع ضبط مواقيتها وكانت المرأة توزع عملها «كربة بيت» بلغة العصر إلا انها تحمل صفات فلاحة بما تعنيه الكلمة.. الكاتب كذلك يستعرض ما تعرضت له اليمن والمدن الواقعة على الشواطئ البحرية على وجه التحديد من مجاعة وموت جماعي وهو ما أفرغ قرى كاملة عن أهلها وكان ذلك بين عامي 1914 1919م، وكيف ان الإمام جاء فيما بعد واضاف هيمنة قاسية على المواطن في سلب قوته واخذ ما بقي له من الأمل في المستقبل حيث دخلت اليمن دوامة جديدة يصعب الخلاص منها لاتباع أسلوب القهر والتجويع وامتصاص كدح الآخرين لينعم بها الحكام والموظفون الذين كما يقول الكاتب: سلطوا لتقصي كل حركة يقوم بها الفلاحون فعمد الامام لمتابعة واحصاء انفاسهم بالعديد من المحصلين كالمخمن والطواف إلى غيره من الاسماء وصحب ذلك عساكر الإمام مهمتهم المتابعة واشعار الفلاح بما تبقى عنده من محاصيل ومع ذلك العسكري يدفع له أجرة وغداء.. وقد كتب الكثيرون حول الظلم الذي كان يحيق بالأسرة اليمنية جراء التصرفات اللا مسؤولة واللا إنسانية من عسكر الإمام يحىى ومن بعد الإمام أحمد.
أمراض وأوبئة
الطبيبة والباحثة الفرنسية كلودي فايان تحدثت في كتابها المشهور: «كنت طبيبة في اليمن» عن عجائب وغرائب الحياة اليمنية في تلك الحقبة وما كان يرتبط بها من الهوان والذل والتخلف والجهل والموت والمرض.. تقول الكاتبة في إحدى الفقرات :مهما يكن من امر فإن اليمن التي تساوي ثلث مساحة فرنسا ويسكنها نحو خمسة ملايين نفس مازالت تعيش في ظلام القرون الوسطى.. وهي من وجهة النظر السياسية مملكة اقطاعية اقتصادهم قائم على الزراعة والحرف واحتياجاتها لهذه الأسباب قليلة وهي لهذا ميدان مفيد جداً للباحثين في أصول السّلالات البشرية ومميزاتها إذ لم يعكرها أي شيء غربي على الاطلاق.
كلودي فايان التي لقيت الشعب اليمني إنسانياً ولم تلتقي به لقاءً سياسياً على حد تعبير الشاعر/محمد محمود الزبيري الذي ذهب إلى القول بأن المؤلفة إذا لم تكن قد خاضت في السياسة على النحو الصريح المباشر فإن كل الصور الإنسانية التي عرضتها في الكتاب تعطي وجداناً إنسانياً يزود النضال السياسي بقوة فعالة لاينضب لها معين.. هناك مثلاً وصفها لمستشفى تعز وهي ترى لفيفاً من المرض يفترسهم المرض ولا يوجد لهم في المستشفى الوحيد دواء تقول «قد يخيل للإنسان أنه يستطيع ان يتصور فظاعة وشناعة كهذه ولكن مشاهدة هؤلاء النسوة في هذه الزرائب أكثر سوءاً من كل ما قد يخطر على البال.. لقد قرأت كما قرأ الناس أوصاف معسكرات الابادة والإفناء ولكني هنا رأيت بأم عيني امرأة تحتضر وهي راقدة فوق برازها، رأيتها تنهض وتستند على كوعها وتتناول طفلها المبلل وهي في النفس الأخير تتضرع وتتوسل. أي نظام حكم هذا الذي لايستطيع توفير الدواء للمرضى من أبناء الشعب.
فايان كذلك تورد عدداً من القصص الأليمة للعديد من المرضى كما هو الحال لإحدى المريضات في مدينة صنعاء التي كانت في أمس الحاجة الى تحليل دم وإلا فإنها ستموت ومع ذلك لم يكن يوجد جهاز من هذا النوع بل ان الجهاز الوحيد الموجود كان خاضعاً لامر الأمير نائب الإمام وهو غائب ومسافر كذلك حكاية امرأة أخرى كانت على وشك ان تضع مولودها ولكن تعذر ذلك واحتاج الأمر إلى جراح غير انه لم يكن يوجد في صنعاء ولا جرّاح واحد ولولا إن الامام كان قد مرض وتطلب ذلك استدعاء طبيب كبير من فرنسا عملت الدكتورة/فايان على اقناعه على انقاذ هذه المرأة لماتت وانتهى الأمر الملفت للنظر ان الدكتورة فايان وصفت الامام وتأثيره الكبير في نفوس الناس ومصائرهم بالقول «اجد من اللائق ان أحيي المؤثر الرئيس في حياتهم .. ذلك الموجود في كل مكان الذي يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، أنه يعرف كل شيء ويعلم انه على كل شيء قدير، إنه أكبر من كل شيء، متكبر، غيور، خبير له الحمد والثناء كريم للذين يخشون قدرته فهو بالإجمال ذو معرفة بالوصول إليها وقد انتهى اليمنيون إلى معرفة ذلك إنهم يفزعون إليه في السراء والضراء، أنه شاهد أبدي، ورفيق لايمل وهم يرددون اسمه في كل وقت وبلا انقطاع وقد صنعت صنيعتهم ولربما قد التقيت به مرة ولكني قليلاً ما اعرفه، ولا استطيع ان اتحدث عنه اكثر مما قد فعلت.
بعد الليل نهار
ترى هل كانت هذه الطبيبة الفرنسية تدرك وهي تتحدث عن الامام بمثل هذه الصورة وعلى هذا النحو أن قدر الشعب أن يفلت من هذه القبضة الحديدية ويتجاوز ثالوث الفقر والجهل والمرض ليضع ثورته الخالدة وينتصر على مخلفات الرجعية والاستعمار ؟. إن الشعب الذي صبر كثيراً وتحمل كثيراً وتألم أكثر من أي شعب آخر قد قال كلمته أخيراً فكانت ثورته الخالدة «سبتمبر وأكتوبر» وكان خلاصه الأكيد وإلى الابد من ظلام الامامة والاستعمار هذا الخلاص العظيم الذي سبقته ارهاصات ومقدمات عديدة كثورة 48 وحركة 55 وغيرها كما ان للاتحاد العمالي ولمواقف القطاعات الشبابية والعمالية أبلغ الأثر في طرد المحتل الغاصب واسقاط النظام الامامي عبر اروع لوحة نضالية جسدها الشعب اليمني بحيث كانت واحدية الثورة اليمنية وفي مختلف مراحل الكفاح والنضال الوطني هي المحرك الأساسي والدافع الأول والأخير لكافة المواقف البطولية التي مكنت اليمنيين من الإفلات من كافة المؤامرات والدسائس التي استهدفت العمل الوطني وأبرز رجالاته وقيادته وربما يكون هذا العمل المتمثل بواحدية الثورة اليمنية.. «سبتمبر وأكتوبر» قد مكن اليمنيين بعد ذلك من الانتصار في معارك الدفاع عن الثورة والجمهورية وتلقين المستعمر الغاصب أبلغ الدروس في الكفاح من أجل الحرية والاستقلال .. ولأن الهم واحد والثورة واحدة فقد كانت أهداف ثورة ال26 من سبتمبر هي أهداف جميع اليمنيين دون استثناء ولذلك كانت ثورة ال14 من أكتوبر هي الوليد الشرعي للثورة الأم وكانت الوحدة اليمنية في ال22 من مايو 90 هي حلم جميع اليمنيين الذي صار واقعاً ملموساً وصارت خيرات الثورة والوحدة هي البديل الأفضل والمعادل الموضوعي لكل سنوات الفقر والحرمان والتخلف والجهل إبان عهدي الإمامة والاستعمار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.