يحتل «الإفتاء» مكانة هامة وخطيرة، في المجتمعات الإسلامية، ربما تفوق «مكانة القضاء والتعليم الشرعي» وذلك لأن الإفتاء ينتشر بسرعة،ويوضع محل التنفيذ على الفور، وتشهد المجتمعات الإسلامية فتاوى متضاربة ومتعددة، مما يحتم على الهيئات العلمية، والدول تنظيم عملية الإفتاء، خاصة أن بعض علماء الدين يزج بهم في السياسة والعلاقات الدولية ،رغم أنه ينقصهم العلم الكامل بأدوات ومتطلبات ومقتضيات السياسة،وهذه الجزئية ناشئة من الخلط بين الدين والدولة، حتى أصبح علماء الدين يريدون أن يتحكموا في مسارات البناء وتشعبات الدولة والحياة وهناك ضوابط للفتاوى، قررها العلماء،واستخلصت بعضها من دراستي في الشريعة والقانون طيلة ست سنوات وقبل أن نذكرها نشير بإيجاز إلى أن الشريعة الإسلامية في جانبها التشريعي هي مجموعة من المذاهب اقتضتها خاتمية الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان «وكل هذه المذاهب نبعت من «النص الإسلامي» الذي يظل «ملكاً للجميع..». هذا «التنوع» لايعني الاختلاف والفرقة البتة، كما لايعني أن إحدى الفرق، تستبد بالأحقية،والنجاة،حسبما ورد في بعض الأحاديث التي لم أبحث مدى صحتها، ولكني أجزم مسبقاً بأنها لو صحت فهي مؤولة،وغير متعينة على فرقة بذاتها، وبذلك يسقط الاستدلال بها، عملاً بالقاعدة الأصولية التي تنص بأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.. أعني أن هذا التنوع في المذاهب الإسلامية، هو تنوع طبيعي، ناتج عن تفاوت العقول في التعامل مع النص بدلالته اللغوية والتشريعية، ومترتب على قابلية النص،للديمومة والتطور بتطور الزمان والمكان، وهو أيضاً تنوع مطلوب وضروري. إذ يستحيل صهر جميع المسلمين في بوتقة واحدة، وكل هذه الفرق إن شاء الله ناجية مادامت على هدى الله ورسوله فإن المولى عز وجل إنما سمى اليهود بالمغضوب عليهم والنصارى بالضالين» أما المسلمون،فكلهم من رسول الله ملتمس. يقول الفخر الرازي في تفسيره للآية رقم «13» من سورة البقرة «وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لايعلمون مثل قولهم» صدق الله العظيم. «وأعلم أن هذه الواقعة «أي ادعاء الأحقية وإنكار الآخر» بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن كل طائفة تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن» انتهى كلامه رحمه الله. والآن يتسنى لنا ذكر ضوابط الفتاوى التي ينبغى أن يتبعها ويتحلى بها متربعة منصات الإفتاء وهي:- ينبغى أولاً ان يتجرد المفتي من عقدة مذهبه، فقد تقتضي المصلحة للمستفتي وللواقع العملي أخذ الرأي من مذاهب أخرى، والمتتبع لكتب المذاهب الفقهية، يجدها تشير إلى المذاهب الأخرى، ونورد المسألة بالدراسة المقارنة، ماعدا بعض التيارات التي تحتكر النص والأحقية بمذهبها. كما أنه يجب على المفتي الإفتاء «بكل المذاهب والآراء الفقهية في المسألة». لأن الشريعة الإسلامية هي مجموعة الآراء، أما أن يقول المفتي للمستفتي، بالرأي الخاص بمذهبه،ويوهمه بأن «الشريعة الإسلامية والحق هي رأي مذهبه فقط»،وماعداه فباطل أو سكوت عنه، فهذا هو التعصب بعينه ويعد من أكبر الاشكاليات التي تثير الفتن والاحتكاكات.. وقد ضرب الشافعية والزيدية في اليمن عبر التاريخ أمثلة للتعايش والاخاء، فمثلاً كان الشافعية،يفتون بآراء الزيدية عندما تحقق المصلحة كمسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد تقع عند الشافعية ثلاثاً وعند الزيدية طلقة واحدة، فكان الشافعية يفتون لأتباعهم بمذهب الزيدية لأن الشريعة لاترى الهدم والإلغاء وإبطال المراكز القانونية وتصفية الشركات إلا وسائل استثنائية. ويجب على المفتي «طرح كل الآراء» بدون ذكر الدليل؛لأنه لايعطى الا للمتعلم، ولايبحث فيه ويدرك سلامته من المعارض وصحته إلا المجتهد، وبهذا قال الإمام السبكي في جمع الجوامع، ص 260. وقال: إلا إذا كان الدليل واضحاً، وألح المستفتي،معرفته فيذكر له الدليل بشرط كونه واضحاً، فإن كان الدليل غامضاً أو جدلياً فيعتذر له بقوله له:عفواً المدرك خفي عليك. وقد شاع في الآونة الأخيرة ثقافة نشر وترويج أدلة بعض المذاهب التي تملك المال وطباعة آرائها، فما تكاد تناقش أحداً منهم إلاَّ وقال لك:أين الدليل؟ ودليلي كذا، حتى أن أحدهم أصر عليَّ بمعرفة دليلي المعارض لدليله، فقلت له: «اقتلب في سمارة، وستصل إلى الدليل»!! ü ينبغي للمفتي، الابتعاد عن كلمات «الراجح ،عامة الفقهاء، الاجماع» لأن الراجح عنده يكون مرجوحاً عند غيره، وأحياناً يقال بالاجماع الذي يلغي آراءً أخرى، ولكن يجوز للمفتي أن ينصحه برأي معين، قائلاً له: «انصحك باتباع هذا الرأي،وليس الشريعة هي هذا الرأي» ،وذلك بعد اتباع الضوابط اللاحقة. ü معرفة مذهب المستفتي،فمن الظلم إن أفتى مستفتياً يقلد مذهباً معيناً برأي مذهب آخر فأهدم أعماله وأعمال آبائه، فينبغي معرفة مذهبه بدلالة المكان الجغرافي وأية دلالة أخرى،فإذا وجد المفتي مصلحة المستفتي في مذهبه، أفتاه بكل الآراء ونصحه باتباع مذهبه، مالم فيتم توخي المصلحة له والمخارجة من مذهب آخر. مع استثناء هام وهو أن «الرأي الذي يؤدي إلى منكر» لايِّجوز الافتاء ويجب على المفتي عدم ذكره مطلقاً، ويحب التفرقة بين:- 1 الرأي الشاذ: وهو الذي يخالف الكثيرين، فقد يخالف الاجماع عالم أو اثنان،فهذا الرأي يجب ذكره طالما أنه لايؤدي إلى منكر فمخالفة ابن عباس أو المزني من الشافعية أو الإمام أبي يوسف تخرق وتمنع انعقاد الاجماع. 2 ولكن الرأي الذي يؤدي إلى منكر وإلى ظلم وبلوى لايجوز الإفتاء به ولوقالت به طائفة كبيرة،مع العلم أن كل المذاهب معها آراء تؤدي إلى منكرات، وقد شاعت أخيراً فتاوى «ارضاع الكبير، وغيرها». بسبب عدم معرفة خطورة الفتوى وعدم اتباع آداب وضوابط الإفتاء. وهناك ضابط خطير وهام لايعمل به معظم المفتين، وهو يجب على المفتي «معرفة مذهب القانون اليمني، ويطرحه للمستفتي «مع آراء المذاهب كلها + نصيحته + مذهب القانون» وينبه المستفتي بأن مذهب القانون الذي يطبقه القاضي اليمني هو كذا. كي لايسمح بإنشاء مركز قانوني مخالف للقانون علماً بأن القانون لاينظم العبادات والأخلاق والعقائد وإنما ينظم «المعاملات» بأنواعها..ويختار الرأي الذي يراه محققاً للمصلحة..وعند ذلك اذا قام المفتي بهذا الأسلوب..تتضح للمستفتي الرؤية الكاملة، وعند ذلك لانحتاج «تحليف المفتي» لأن المفتي يكون قد أفتى بكل «الآراء + القانون رأيه الشخصي» ولكن في نظري لا مانع من تحليفه!! ü وبعد أن تطرح للمستفتي كل المعادلة، يكون بالخيار يختار الرأي الذي يخارجه وليس في ذلك تتبعاً للرخص، فيجوز له أن يتزوج بمذهب «الأحناف» بأركان الشهود والرضا ويطلق بمذهب الشافعية ويرجعها بمذهب الأحناف، ويمهرها بمذهب الزيدية. لكن تتبع الرخص يعني «أخذ منكرات المذاهب أو تركيب المنكرات» وهو غير جائز ومثال الأول: أن يشرب شافعي نبيذاً على ذمة الأحناف، والثاني كأن يتزوج بدون ولي وبدون شهود فيجوز له إن كان حنفياً فقط أن يتزوج بدون ولي وإن كان مالكياً بدون شهود أما أن يتزوج بدون ولي وبدون شهود فهذا التركيب يساوي الزنا بعينه في نظري، لأن المسألة المركبة لو طرحت على الجميع لأنكروها لأن الأحناف يشترطون الشهود، والمالكية يشترطون الولي. وقد تثور مسألة التنازع بين المذاهب كأن يتزوج شافعي من زيدية ويطلقها 3 طلقات التي تقع ثلاثاً في الشافعية، وطلقة واحدة عند الزيدية فهنا،هم بالخيار وبلا شك سيختارون المذهب المحقق لمصلحتهم. والضابط الهام أيضاً أنه توجد مسائل معاصرة شائكة هذه تحتاج إلى لجان «شرعية وقانونية واقتصادية وسياسية» كمسألة الربا وبعض معاملات البنوك، والعلاقات الدولية والتطبيع مع إسرائيل فهذه المسائل بحاجة إلى اللجان الشرعية والتخصصية لإصدار الفتوى بشأنها أما أن يقفز العالم الشرعي كل التخصصات ويتشبث بالدليل حقه دون فهم ماهية المسألة «فهمها من اللجان التخصصية» فلا..فالحاصل أنه ما إن يسمع العالم الشرعي بمسألة ثم يسارع إلى الإفتاء.. لقد ولى عصر المجتهد المطلق وانتهى عهد أهل الحل والعقد والإجماع. وأخيراً ينبغي للمفتي، تغليظ الفتاوى على الحكام ومراعاة المصلحة العامة وحماية الحقوق والحريات الجماعية، وعدم إهدارها استناداً إلى دليل أو مثل أو سابقة..وبهذا تكون معادلة الفتوى هي الإفتاء بكل الآراء ورأي المفتي الشخصي، ومذهب القانون دون إيراد الدليل، إضافة إلى ضرورة مراعاة مذهب المستفتي وعدم الإفتاء بالرأي المنكر.